إنجيل يوحنا اصحاح ١١- مَنِ الحيُّ ومَنِ الميّت؟

بقلم: 
إركّي كوسكِنيمي، دكتور في اللاهوت
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

في الأصحاح السادس، نرى أنّ يسوع َ قد أطعم آلاف الناس، ثمّ بدأ يتحدّث عن خبز الحياة. وفي الأصحاح التاسع، شفى رجلًا أعمى، ثمّ تكلّم عن العمى الروحيّ. في هذه القطعة التي نتناولها الآن، يسوع يقيم لعازارَ من الموت. غير أنّ هذه القطعة أكثرُ بكثير من مجرّد إقامة الميّت من الموت. أمامَنا تُطرح هذه الأسئلة: ما هي الحياة وما هو الموت، ومن هو الميّت ومَن سيحيا.

إضاعةُ وقتٍ متعمَّدة ١١: ١-١٠

بينما كان يسوع على الجانب الآخر من نهر الأردن، تلقّى خبرًا يقول بأنّ لعازار في حالة صحّية حرجة. ومع ذلك فإن الشافي لا ينطلق، بل يؤجّل مغادرتَه قصْدا. عدم القيام بأيّ عمل هنا سيكشِف ما في صميم الأصحاح كلِّه: لا يحومُ حديثُنا هنا عن إقامة الميّت فحسب. إنّ المقصودَ من هذه الأحداث، هو إظهار مجد ابن الله، وبعبارة أخرى، إبراز هويّة يسوع الحقيقية. ولهذا السبب كان على النُّدباء المحزونين الانتظار، وتُرك لعازار يموت.

تفاجأ التلاميذ بأنّ يسوعَ يجب أن يغادر إلى مِنطقة أورشليم. رغمًا عن كلّ شيء، فإنّه كان قد تعرّض مؤخّرًا لخطر الموت هناك. يسوع يُقدّم الأسباب ذاتَها لتصرّفاته كما كان عند شِفاء الرجُل الأعمى (٩: ٤-٥): ثمّة وقت محدود للعمل، فمتى جاء الليل لا يقدِر أحدٌ أن يفعل الخير. وهذا ينطبق بشكل خاصّ على يسوع - كانت له مهمّته لفترة محدودة معيّنة. وفي غُضون ذلك الوقت، كان عليه أن يعمل، لا أن يتجنّبَ الخطر.

لعازار ميّت ١١: ١١-١٦

توفي لعازار في بيت عَنْيا (العيزَرِية ) الواقعة شرقي القدس. وكان هذا بالنسبة ليسوعَ، علامةً على بداية الانطلاق. أساء التلاميذ فهمَ كلماته مرّتين، وهذا الأمر سِمة من سمات إنجيل يوحنّا؛ في البداية يودّون أن يُصبحوا ممرّضين جيّدين، ثمّ توما الملقّب بالتوأم يريد أن يُظهر جرأة الشهيد. في كلتا الحالتين، نيّة التلاميذ كانت حسنة. وقد بدت خُطط الله العظيم غريبةً كليًّا بالنسبة لهم.

اعتراف مَرْتا بالإيمان ١١: ١٧-٢٧

كان بيت المتوفّى لعازار مليئـًا بالمحزونين يعزّون أخواته. وأوّل ما يُطلعنا يوحنّا عليه هو كيف تحدّث يسوع مع مرْتا. لقد لاحظنا لغاية الآنَ، أنّ للفعل ”يؤمن“ مجموعة متنوّعة من المعاني في الإنجيل الرابع. الناس قد ”يؤمنون“ بيسوعَ، وفي الوقت ذاته، يتساءلون، هل عند مجيء المسيح، سيقوم هو بعجائبَ أكثرَ من يسوع؛ بعبارة موجزة، إنّهم لم يعوا ويُدركوا أنّ يسوعَ والمسيحَ واحدٌ .

في معظم الحالات، لا فكرةَ لدى الناس الذين يتحدّثون مع يسوعَ عمّا يجري. وقد شوهد ذلك آخرَ مرّة عندما كان التلاميذ يتكلّمون ولم يعوا معنى الأشياء. الآنَ الوضع مختلف؛ اعتراف مَرْتا بالإيمان كاملٌ وجميل. إنّها أوّلًا تُظهر إيمانَها عندما تقول إنّ يسوع يستطيع أن يصنع المعجزات. كان بإمكانه أن يَشفي لعازار المريض، والآنَ حتّى، بمقدوره إقامة الميّت من الموت. إنّ بيانها بعد هذا يعبّر عن إيمانها الراسخ في القيامة في عاقبة الأيّام.

والسؤال الحاسم المطروح هنا، هو الذي يأتي أخيرا: هلِ الحياة والقيامة مرتبطتان بشخص يسوعَ المسيح، والأمر القاطع ليس نبضَ قلبنا أو التنفّس، ولكن علاقتنا مع يسوعَ المسيح ؟

مَرْتا هي واحدةٌ من أولئك الذين قد أزال اللهُ عماهم الروحيّ، إنّها تستطيع أن ترى بوضوح مجدَ المسيح:

”- نعم يا سيّد: أنا أومن كلَّ الإيمان بأنّك أنت المسيح ٱبنُ الله الآتي إلى العالَم (يوحنا ١١: ٢٧).

وهكذا فإنّ قضايا الحياة والموت تتّضح من خلال الحوار ما بين مَرْتا ويسوع. إنّ رقودَ لعازار ميّتًا في القبر ليس بخسارة؛ لم يلحق به أيّ سوء. الأسى والبؤس يحلّان عند رفض يسوع المسيح وإنكاره.

قوّةُ الموتِ تسقُط ١١: ٢٨-٤٤

يسرُد يوحنّا قصّةَ القيامة بطريقته الخاصّة الرائعة. نحن نواجه سلطان الموت بكلّ ما فيه من رُعب ورهبة عند قبر لعازار. وفي الوقت ذاته، يُصبح الفرق الرئيسُ بين البشرية والله باديا. باستطاعة الناس رؤية الموت الدنيوي والحزن الناجم عن الحِداد فقط. عندما يُجهِش يسوع المسيح في البكاء عند القبر، يظنّ الناس أنّه يندُب وفاة لعازار ولا حولَ له ولا قوّة. في الواقع، يسوع ينتحب بسبب سلطان الموت والظلام المعشّش في قلوب الناس، وبسبب عدم الإيمان لدى الحشد المتجمهر. هو نفسه لا يحتاج إلى أن يشهد معجزة القيامة. من الضروري بالنسبة للناس المحيطين الذين، على عكس ما قد يعتقدون، لا يعرفون شيئًا عن الحياة والموت.

عندما يخرُج الرجُل الميّت من قبره، تمكّن كلّ شخص من فهم الحقيقة التي كشف عنها الله: سلطان الموت يتحطّم ويتهشّم عند وجود المسيح، لأنّه أُرسِل من قِبَل الله لإعطاء الحياة للعالَم.

إنّ بكاء يسوعَ وتأثّرَه العميق بمثابة تفصيل ذي بال. حتّى في زمن تدوين إنجيل يوحنّا، رأى الكثير من الناس أنّ صلبَ يسوع أمرٌ مَهين كريه ـ وعليه أن يعاني ويموتَ مثل الإنسان. وهم سعوا إلى تفسير هذه الأشياء العدائية الهجومية بجعل يسوعَ مجرّد كائن روحاني لا قدرةَ له على الإحساس بالألم، ناهيك عن الموت.

لا توجد علامة على هذا الميل أوِ ٱلنزعة، لا في إنجيل يوحنّا ولا في الأناجيل الثلاثة السابقة. في هذه النصوص، يظهر يسوع مُقاتلًا ومكروبًا ومحزونًا وذا اطّلاع على الأسى والألم. وهنالك ميزة جميلة في هذه الصورة التي يعرِضها يوحنّا حول بكاء يسوع، كما رأى سلطانَ الموت على الناس الجهلة.

مكيدةُ قتلِ يسوعَ المسيحِ ١١: ٤٥- ٥٧

إنّ أعظمَ معجزةٍ صنعها يسوع، إعادة إنسان ميّت إلى الحياة، لم تُسبّب دهشة وإيمانًا فحسب، بل شحنت وحركّت مجموعة من الرجال ذوي الإرادة الحديدية. ذلك المجلس (السنهدرين)، أعلى هيئة يهودية لصنع القرار قدِ التأم وقرّر، يجب إيقافُ يسوعَ المسيح، مهما كان الثمن.

في وسَط كلّ هذا الظلام، روح الله تعمل. خُطّة الله تكمُن مطمورة في أحلك بيان والأكثر مخالفة للدين، وإلحاد قيافا لا يشكّل عقبة أمامَ الله ليستخدمه كأنّه صوتُه؛ فمن الأفضل وجوب موت رجلٍ واحد كي لا ينبغي على أحد آخرَ الهلاك. وهذا الموت لن يشمُلَ إسرائيلَ فقط بل العالَم برُمّته.

وقدِ ٱتّخذ القرارُ الآن، وقريبًا سيكون كلّ شيء مُعدًّا للنهاية العظمى؛ الخُطّة كاملة. الأصحاح التالي يدور حولَ آلام المسيح.