إنجيل يوحنا اصحاح ١٢ - إلى أورشليم

بقلم: 
إركّي كوسكِنيمي، دكتور في اللاهوت
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

إنّ الكلماتِ القليلةَ الأولى من الأصحاح الثاني عشر في إنجيل يوحنّا (”وقبل الفسح بستّة أيّام“) تربُِط المَجْرياتِ بوضوح بالأحداث الوشيكة لموت يسوع المسيح وقيامته. على الرغم من أنّ العديد من المشاهد السابقة، كانت قد لفتتِ النظرَ إلى الجُلْجُلة، إلّا أنّ وصفَ يوحنّا للآلام يبدأ بهذه الآية.

عند وصف معاناة يسوعَ وقيامتِه، يستعرض يوحنّا موضوعَه بطريقته المألوفة، ويسير في دربه الخاصّ. من الناحية الواحدة، يحذِف عدّة أشياءَ حصلت في الأناجيل الثلاثة الأولى، ومن الناحية الأخرى، يأتي بأمور جديدة كثيرة. وبالرغم من كلّ اختلافاته، يبقى تقرير يوحنّا محافِظًا على الشبه والقرابة مقارنة بباقي الأناجيل المتوافقة، على الرغم من أنّه في بعض الأحيان، وُضعت الموادّ القديمة في إطارات وبُنىً جديدة. إنّ تقريره تتمّةٌ رائعة للتقارير والبيانات الواردة لدى كتّاب الأناجيل الثلاثة السابقة.

هَدْرُ الطيب ١٢: ١-١١

مشهد رائع يتكشّف خلالَ عَشاء في بيت عنيا (العيزرية). جميع الإنجيليّين الأربعة يروُون كيف أنّ ٱمرأة باسم مريم وَفق البشير يوحنّا، تقوم فجأةً ودون استئذان أحد، فتمسح قدمَي يسوعَ المسيحِ بطيب الناردين باهظ الثمن. كان لديها من ذلك الطيب ثلث لتر تقريبا، وكان مُكلفًا بشكل لا يُصدّق. وكان العامِل يتقاضى دينارًا في اليوم، أي أنّ مبلغ أُجرة عاملٍ في السنة قد تمّ استخدامُه برمشة عين.

كلّ الإنجيليين الأربعة يقولون إنّ تلاميذَ يسوعَ قد أُزعجوا وتضايقوا من هذا الهدر والتبديد، إذ أنّه كان من الممكن توزيع المال على الفقراء والمساكين. يسوع يرُدّ هذا اللوم والتأنيبَ منوّهًا، على ما يبدو، إلى شريعة النبيّ موسى (سفر التثنية ١٥: ١١)، ويدافع عن مريم.

إنّ أهميّة المسْح مضاعفةُ بجلاء، فهو من ناحية يمثّل مسح يسوع ملكًا، الذي، في الواقع، كان على وشَك دخول أورشليم. ومن ناحية أخرى، فالأمر متعلّق بطريقة أخرى، باستخدام مراهمَ باهظة الثمن؛ كانت تُستعمل في إعداد الجثّة للدفن.

الشخصيّة المأساوية الداخلة في هذه المرحلة منَ الآلام هو يهوذا الإسْخَرْيوطي (التلميذ الخائن). بالكاد كان أيُّ معلّم في الكنيسة قد عامله بطريقة ماهرةٍ ومروّعة كما يفعل يوحنّا، ذو الميل لسبْر أعماق خُطط الله. دور يهوذا واضحٌ منذ البداية (يوحنا ٦: ٧٠-٧١)، وفي الواقع، حتّى قبل ذلك بكثير (أُنظر ١٢: ١٧). هل كانتِ الليلة حالكةَ الظلام كما كان الحال عندما أقدم يهوذا على خيانة يسوع؟ (يوحنا ١٣: ١٣٠).

إنّ قصّة مسْح يسوعَ المسيحِ قد أربكتِ العديدَ من علماء الكتاب المقدّس. لماذا اشتملت كلّ أناجيل المبشّرين الأربعة عليها؟ ما معنى هذه القصّة وما جوهرُها الحقيقي المُستفادُ منه؟ إنّ الجواب المحتملَ، والذي من شأنه أن يُناجينا حقّا، هو أنّه ربّما لا وجودَ لمثل هذه الحكاية أصلا. هنالك حبُّ امرأة واحدة (مريم المجدلية) فقط، عميق ونابضٌ بالحياة حِيالَ يسوع، إنّه عِطر المرهم المُسْكر والصلة بأُسبوع الآلام (الأُسبوع المقدّس، ١٩: ١٧-٤٢). هذه القصّة، كما هي مرويّة، تربِطُنا نحن قرّاء الأناجيل، بالتاريخ المقدّس - وهذا يُضفي أهمية عظيمة على القصّة. سكبُ الطيب يشير إلى الموت والتكفين.

يسوعُ المسيحُ يدخُل أورشليمَ راكبًا ١٢: ١٢-١٩

في وصفه لدخول يسوعَ المسيحِ إلى أورشليم، يسير البشير يوحنّا في أعقاب سابقيه بأمانة ووفاء. أُستُقبل الربُّ بترحيب الظفر والانتصار. أُحضِر له حِمار، وهذه إشارة مباشرة إلى النبوءة الواردة في سِفْر زكريا (زكريا ٩: ٩). كنّا قد لاحظنا من قبلُ، أنّ هنالك علاقة وثيقةً بين سِفر زكريا وعيد المظالّ (العُرْش). والآن سَعَفات أشجار النخيل، التي يذكُرها يوحنّا والتي لها مكانُها الخاصّ في عيد المظالّ، يجمع كلّ شيء، مع الاقتباس من سِفْر زكريّا، في دخول يسوع الملكي؛ ها هنا ملك إسرائيل المنتظَر!

وجاءت الحشود حبًّا بالاستطلاع، انضمّت للناس الذين يُحيُّون يسوع، تلبّدت السماء بالغيوم السوداء. أضحى تمجيد ابنِ الإنسان وشيكا.

يسوعُ يتحدّث عن موته ١٢: ٢٠-٣٦

يسرُد يوحنّا برويّة وتفصيل، كيف رغِب بعضُ اليونانيين في لقاء يسوع. كانوا على الأرجح غيرَ مرتدّين عن دينهم، ولكنّهم مُشرِكون وثنيّون، كرّموا إلهَ إسرائيل، بدون أن يُصبحوا يهودا.
هنالك في القصّة أكثرُ ممّا قد نُدرك ونستوعب. اليهود لم يختلطوا بالأمَم (الوثنيين)، لم يؤاكلوهم ولم يتّصلوا بهم إلا عند الضرورة. والجدير بالذكر، أنّ يسوعَ المسيحَ نادرًا ما تكلّم مع أيٍّ من الوثنيين على ضوء ما جاء في الأناجيل.

مع ذلك، نرى الآن أنّ بعضَ اليونانيين يرغبون في لقاء يسوع؛ إنّهم يفشَلون في محاولتهم هذه، ولكنّهم لا يُرفَضون بسبب أصلهم. إنّ خُطّة الله العظمى تتحرّك الآنَ بسرعة، بحيث لم يعُد هناك أيُّ وقت لإجراء اتّصالات جديدة. لهذا السبب، أصبحت أهميّة يسوعَ المسيحِ للأُمم، للوثنيين، واضحةً بعد قيامته فقط.

وفي موضع سابقٍ من إنجيل يوحنّا، كان يسوع المسيح قد ذَكر في عدّة مناسبات ”ساعتَه“ (٢: ٢؛ ٧: ٦). والآن هذه الساعة قد حانت. ابن الإنسان سيُمجَّد، إلّا أنّ هذا المجد يكون فظيعًا مروّعًا حتّى بالنسبة ليسوعَ نفسه. إنّه طريق حبّة الحِنطة؛ لن يكون هناك ملجأ له إلا انّه سيواجه الموت. (على نحو طارىء هذا أمر نادر في إنجيل يوحنّا، إذ أنّه، بشكل عامّ، لا يُورد الإستعاراتِ حولَ يسوع).

وقد قيل عن الآيات ٢٧-٣٠ بأنّها بمثابة تقرير سديد يقدّمه البشير يوحنّا حول صراع يسوع في بستان كنيسة الجسمانية (چث شمنا بالآرامية أي: معصرة الزيت، وتُسمّى هذه الكنيسة المقدسية الصغيرة بكنيسة كلّ الأُمم). يوحنّا لا يذكُر ذلك في أيّ مكان آخرَ، لكنّه كان على دراية واضحة بهذه المعرفة التقليدية.

إنّ القطعة القصيرة في إنجيل يوحنّا تتضمّن العنصر الرئيسَ في معركة الصلاة الكبرى: ابن الله يرتجف، يرتعش قبل الموت، ولكن، مع ذلك، لا ينسحب من الطريق التي رسمها له الآب. وأمرٌ آخرُ كان البشيرون الثلاثة الأوائل قد وصفوه، يطرأ على بال القارئ، هو قصّة معمودية يسوع المسيح (مرقس ١: ٩-١١).

كلمات يسوعَ تُحضِر بسهولة إلى الذهن ذلك المشهدَ الذي يضعه البشير مرقس في قيسارية/قيصرية فيلبّس (مدينة بالقرب من منابع الأردن واسمها الحالي بانياس، مرقس ٨). وعند هذه النقطة يصف مرقس، بعد اعتراف بطرس بالإيمان العظيم ، كيف يتحوّل يسوعُ الآنَ نحو الصليب والمحنة. في إنجيلَي مرقس ويوحنّا، تتضمّن نقطة التحوّل هذه تحذيرًا وحضًّا لأولئك الذين ينتمون إلى يسوعَ المسيح: طريقهم مخضّبة بالصليب والمحنة، ولكنّها السبيل الوحيد لاتّباع المسيح وإيجاد الطريق إلى الآب.

بعد صراع قصير، تمّ تحديد واضح للخطوط العريضة لمسار يسوعَ. الله سوف يحارب الشيطان ويُطيح به. هذا سيكون مشهدًا مُروّعًا؛ يسوع المسيح ”سيُرفع من الأرض“، يكون مسمّرًا على الصليب ليسخرَ منه الجميع. ولكن عندما يُرفع بهذا الشكل سيجذبُ الجميعَ إليه. سيتِمّ الحُكم على جميع الناس وَفقًا لعلاقتهم مع المسيح المصلوب. فيه تكون الحياة، وبدونه الكلّ سيموت. إنّ الناس الفُضوليين غير المؤمنين بأسئلتهم الكثيرة يخلُقون ظلّا قاتمًا حولَ أحداث أسبوع الآلام الآتي.

النور يسطَع في الظلام ولكنّ الظلامَ لم يفهَمْهُ ١٢: ٣٧-٥٠

تشكّل نهاية الأصحاح خُلاصةً رائعة لعمل يسوعَ الدنيوي (على الأرض) قبل آلامه الفعلية. وقد تمّ الآن تحقيقُ كلمات الترنيمة التمهيدية في إنجيل يوحنّا تماما. كان يسوع المسيح نورَ العالم، ولكنّ الناسَ الذين كانوا تحت سلطة الظلام لم يتمكّنوا من قَبوله. وهكذا فإنّ نُبوءة إشعياء (٦: ٩-١٠؛ ٥٣: ١) قد تحقّقت. كان الله قد قسّى قلوبَ شعبه هو، وسكب عليهم عمىً روحيًّا، منعهم من رؤية مجد المسيح. هذا هو العمى الذي تسبّب بصلْب يسوع. وكان هنالك بالطبع، حتّى بين الحكّام، من أدرك الأمور، لكنّهم خافوا ولم يتحلّوا بالشجاعة للحيلولة دونَ هذا الظلم المميت.

آيات الأصحاح النهائيةُ هي بمثابة خِطاب يسوعَ الأخيرِ للجمهور، وفي الوقت ذاته، نداء قوي ومناشدة لجميع الناس. يسوع هو نور العالم الذي أرسله الآب، وهو مخلِّص الخُطاة الوحيدُ. الشَّراكة مع يسوعَ هي السبيل الوحيد للخاطئ لتجنّب الدمار الأبدي. ليس هناك حاجة إلى يسوعَ كديّان، لأنّ حقيقة الله ستُحاكِم كلّ البشر. بدلًا من ذلك، هو ضروري، بكلّ ما في الكلمة من معنىً، كونه المسلِّم والمخلِّص، لأنّنا لم نُعطَ أيّة وسيلة أخرى لمجد الله.