إنجيل يوحنا اصحاح ١٤ - الطريقُ والحقُّ والحياة

بقلم: 
إركّي كوسكِنيمي، دكتور في اللاهوت
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

تشمُل الأصحاحات التاليةُ خطابَ (حديث) الوداع الشهير (الصلاة الوداعية) الذي نطَق به يسوع. بدايته، في الواقع، يوحنّا ١٣: ٣١ ويستمرّ حتّى نهاية يوحنا ١٧. في العصور القديمة، استقطبت كلماتُ الرجال العظماءِ الأخيرةُ اهتمامًا خاصّا، ولذلك ما يقوله يسوعُ المسيحُ الآنَ هو ذو أهمية خاصّة. لقد حُرّر الحديث ونُقّح بطُرق معيّنة، وذلك لأنّه، على سبيل المثال، هنالك، كما يبدو بوضوح، بين الأصحاحين الرابع عشر والخامس عشر مَفصِل، عدم استمرارية (حلقة ناقصة). ولهذا السبب حاول بعضُ العلماء إعادةَ ترتيب بعض الأصحاحات والمقاطع ووضعها في مرحلة لاحقة. وبطبيعة الحال، لم يتمّ التوصّل إلى إجماع، إذ أنّه في مثل هذه الحالات تكون فُرص نجاح الباحث محدودةً جدًّا، ولذلك فإنّ إزاحةَ القضية عن بساط البحث يكون الأكثرَ حكمة.

الطريقُ إلى الآب ١٤: ١-١٤

بدون أيّة صلة واضحة بما قاله آنفًا، يمضي يسوعُ في الحديث عن كيف أنّه ذاهبٌ إلى الآب، وكيف سيُعِدُّ منازلَ لأخصّائه مع الآب.

منذ الأصحاح الأوّل في إنجيل يوحنّا، هناك تركيز شديدٌ على كينونة يسوعَ قبل الوجود، أي أنّ يسوع كان موجودًا حتّى قبل أن يُولد ويأتي إلى العالَم. الآن حان الوقت ليعودَ الربّ إلى مجده. رسالته - إعداد مكان لخاصّته مع الآب - يقترب الآن من نهايته. كلمات يسوعَ عن كيفية دخول مشيئته هو إلى المنازل السماوية، تنطوي على نظرتين متداخلتين. الأولى، كانت الأناجيل المتوافقة قد شدّدت عليها أكثرَ وهي عودة المسيح إلى الدينونة الأخيرة. هذه النظرة تَرِد أيضًا في إنجيل يوحنّا (١٤: ٣؛ قارن أيضًا ١١: ٢٤).

على كلّ حال، البارزُ أكثر في إنجيل يوحنّا هو ما يسمّى بعِلم الآخرة (الإيمان بالحِساب والبعث) الراهن: حينما يواجه شخصٌ ما يسوعَ المسيحَ ويؤمن به، يكون قدِ ٱنتقل من الموت إلى الحياة، ونجا من حساب الدينونة أيضا. تبرُز هذه الحقيقة في ما يقوله يسوع، وكذلك في الأسئلة التي طرحها التلاميذ. إنّ الأسئلة التي يطرحُها توما وفيلبُّس تدور حولَ نفس المسألة. توما لا يعرف الطريقَ إلى مجد الآب، وفيلبُّس يريد أن يرى الآب.

أجوبة يسوعَ تدلّ على الطريق إلى الآب: إنّ معرفةَ يسوعَ هي الطريق، وعلاوة على ذلك، الطريق الوحيد إلى الآب. أيّ شخص قد جاء ليعرفَ يسوع، معناه قد أتى لمعرفة الآب. إذ أنّ الآبَ والابنَ واحد: الآب في الابن، والابن في الآب.

وهنالك بالفعل توقُّع وحَدْس بشأن العمل التبشيري مستقبلًا في وعد يسوع بأنّ معجزاتِ الله، ستتضاعف من خلال عمل ونشاط أخصّائه.

يسوعُ يَعِدُ بالروح القُدس ١٤: ١٥-٣١

إنّ النقطة الهامّةَ في نهاية الأصحاح الرابع عشر، هي الوعد بأنّ التلاميذَ سيحصُلون على الروح القُدس مُعينًا مؤازرًا لهم. اللفظة ”معين/معزٍّ“ في اللغة اليونانية هي الباراكليتوس أو الباراقليط ولها دلالاتٌ كثيرة (المساعد، المؤازر، الداعي، المعزّي، المشجِّع). وقد سعى العلماء لتقصّي أصلها في تاريخ الأديان، من خلال دراسة نصوص من مختلف الأديان. يظهر أنّ هناك نظيرًا لها في الأدب اليهودي، ولدى يهود قُمران أيضا، وبعد ذلك في النصوص المندائية (المنداعية، الصابئية)، غير أنّ دراسة هذه النصوص لم تكن مفيدةً جدا. المصطلح قديم، ولكنّ الموضوعَ جديد.

على كلّ حال، إنّ الروح القُدس هو المحامي، محامي الدفاع (قارن سفر أيّوب ٣٣: ٢٣)، الشفيع والوسيط (رسالة يوحنّا الأولى ٢: ١)، المعزّي والمعاون المؤازر (لا سيّما في القسم الذي نتناوله الآن) للمسيحيين. كما نتعلّم من القسم الحالي، أنّ الروح القُدس كان، قبلَ كلّ شيء، قد أُرسِل لمساعدة المسيحيين، بعد أن تركهُمُ المسيح ولم يعُد بينهم جسديا. قريبًا كان على يسوع أن يذهب بعيدًا، ولكنّ أخصّاءه قد يبقون يرونه من خلال المساعد. على عكس ”شعوب العالم“، إنّ أتباعَ يسوعَ يُدركون أنّ الآبَ في ابنه، الابن في الآب، يسوع في خاصّته وخاصّته في يسوع - وهذا يحمِلنا إلى مرتفعات لاهوتية سامية شامخة. إنّ العالمَ لا يعرف المساعد المعزّي، كما أنّه لن يعرفه أبدا.

وهناك سِمة أخرى مهيمنة غالبة في هذا القسم، ترِد في مناسباتٍ عدّة، وتتعلّق بطاعة المؤمنين بالحفاظ على كلمات معلّمهم. إذا كنّا نُحبّ يسوع، فينبغي أن يتجلّى ذلك في أعمالنا الملموسة المحسوسة. نحن نرغَب في إِطاعة مشيئة الربّ التي أرانا إيّاها. هنالك تركيز شديدٌ جدًا على هذا في كلّ كتابات يوحنّا (أُنظر مثلًا رسالة يوحنا الأولى ٢: ٧-١١). إنّ حبَّنا للربّ، ليس مجرَّدَ فكرة أو مفهوم، ولكنّه يعني أنّنا نسير حقًّا في العمل وَفق كلماته وعلى هديها ولا نحيد عنها. لا يُمكننا أن نحب َّيسوع، وفي الوقت ذاته، نتجاهل كلمتَه ونضرِب بها عُرضَ الحائط.

في آيات هذا الأصحاح الأخيرةِ، يبدأ الظلام في الهبوط على المجد. حان الوقتُ، يسوع على وشك أن يُصلب. طاعة الابن لمشيئة الآب تتجلّى في الحقيقة أنّ يسوع نفسَه أمينٌ وصادق للكلمات التي نطق بها للتوّ. يُقاس الحبُّ للآب بأعمالٍ محسوسة، وهكذا يبدأ الربُّ رحلتَه إلى درْب الصليب.