إنجيل يوحنا اصحاح ١٣ - الله خادمًا

بقلم: 
إركّي كوسكِنيمي، دكتور في اللاهوت
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

في بداية الأصحاح الثالث عشر ننتقل إلى الغرفة العُليا (العليّة) للنظر في الأحداث الهامّة في أسبوع الآلام.

يتعامل يوحنّا مع مصادره بطريقة رائعةٍ، تطرَح بعضَ المشاكل، وسنبحث أهمَّ مشكلتين قبل الولوج في مناقشة هذا الأصحاح.

أوّلًا، يبدو أنّ قصّة يوحنّا لا تتناسب مع الأناجيل المتوافقة، متّى ومُرْقُس ولوقا، لأنّه يظهَر أنّ تاريخ موت يسوع المسيح ينحرف عنها بيوم واحد. ثانيًا، البشير يوحنّا لا يقول لنا أيَّ شيءٍ عن نظام العَشاء الربّاني. نعم، يوحنّا وبشيرو الأناجيل المتوافقة يقدّمون شهاداتٍ متماثلة حول صلْب يسوع المسيح يومَ الجمعة (مرقس ١٥: ٤٢؛ يوحنّا ١٩: ٣١، ٤٢). ومع ذلك، يبدو أنّ تاريخَ عيد الفسح عندهم مختلفٌ. على ضوء الأناجيل المتوافقة، تناول يسوع وتلاميذُه عَشاء عيد الفسح (أُنظر مثلًا مرقس ١٤: ١٢-١٧)، في حين أنّ يوحنّا يقول إنّ اليهود كانوا يستعدّون فقط لتناول العَشاء (يوحنّا ١٨: ٢٨).

في اعتقادي، هناك نوعان من التفسيرات المحتمَلة.
الأوّل هو أنّه بنفس الطريقة، المألوفة عندنا الآنَ، يتعامل يوحنّا مع موادّه. أسلوبه الأنيق واللاهوتي يتناسب بشكل جيّد مع تأكيده على الحقيقة القائلة بأنّ يسوعَ المسيحَ مات من أجلنا، كما الحَمَل الذي ذُبح. وَفقا للتسلسل الزمني الذي يعرِضه يوحنّا، نجد أنّ يسوعَ المسيحَ يموت في اللحظة نفسها، التي تمّ فيها تقديمُ خِراف الفسح قُربانًا في الهيكل.
قد يكون التفسير الآخر أكثرَ احتمالا. في الديانة اليهودية، في زمن يسوعَ المسيحِ، لم يكن هناك اتّساق ثابت تحت سلطة واحدة، في جميع القضايا؛ كانت للناس وُجُهات نظر متنوّعة حولَ العديد من المسائل والقضايا. وهكذا كانت هناك أيضًا العديد من التقاويم (الرُزنامات) للأعياد والاحتفالات. من المحتمَل القريب أن يكون يسوعُ وتلاميذُه قد كانوا يتبعون تقويمَ احتفالات الإسّيّين وتناولوا عَشاءَ الفسح قبلَ الصدّوقيين بيوم واحد. وهذا هو أيضًا الأساس للتفسير التالي: في ذلك العام، صادف حلولُ يوم السبت وعيد الفسح في يومين متعاقبين، لذلك أكل بعض الناس لحمَ خِراف عيد الفسح قبل الآخرين لتجنّب انتهاك وتدنيس السبت.

البشير يوحنّا، لا يقول شيئًا عن مؤسّسة الشركة المقدّسة، ولكنّه على الفور، يسير قُدُمًا ليصفَ لنا كيف غسل يسوعُ المسيحُ أرجُل التلاميذ. وطَوال فترة طويلة من الزمن، بُذلت جهود لإيجاد سبب ذلك، والاستنتاج يتعلّق كثيرًا بكيفية إجابتنا على السؤال السابق. ومن المرجّح أنّ يوحنّا وببساطة يفترض أنّ القضيةَ مألوفة معروفةٌ لقرّائه.

إنّ طريقةَ حديثه عنِ المعمودية وعن العَشاء الربّاني ذاتُ طابَع خاصّ ومميّز. إنّه يتحدّث عن كلّ منهما بشكل مبطّن خفيّ، وفي الآن ذاته، صريح جليّ. إنّ الكلماتِ التي يستخدمها في العَشاء في ٦: ١١ هي، في الواقع، نفس تلك الكلمات المستخدمة في مؤسّسة القُربان المقدّس تقريبا.

يسوعُ يغسِلُ أرجُلَ التلاميذ ١٣: ١-٢٠

وفي عشائه الأخير، يُذِلّ يسوعُ نفسَه ويُصبح أدنى خادم لجميع تلاميذه. يأخذ مِنشفة خادمٍ ويغسل أرجُلَ الجميع تِباعا. لا شكّ أنّ القصّة تخدُم غرضين مهمّين. إنّ غسلَ يسوعَ للأرجُل في العَشاء الأخير، يتحدّث عن محبّة ورعاية يسوعَ الثابتتين حِيالَ أخصّائه. كان الصليب قد ألقى بظلاله على الشراكة الصغيرة، ولكنّ ابنَ الله لا يضجر أو يتبرّم من الخدمة، ولا حتّى من الذي سيخونه في آخر المطاف. إنّ مهمّة الغلام الخادم العبد، ليست حقيرة وضيعةً ”كلّ هلْقدّه“ بالنسبة ليسوع، الذي كان في البدء مع الآب في مجده.

عرضُ القضية من وُجهة نظر رومانوس ميلودوس، الشاعر البيزنطي الكبير (القرن السادس، قِدّيس في الكنيسة اليونانية، ألّف أكثرَ من ألف نشيد، بقي منها أقلّ من مائة نشيد)، يُعلن أنّ الملائكة قد صُدموا كما كان الخالق نفسه على يديه وركبتيه أمامَ الذين خلقهم.

وثمّة مقصد آخرُ لهذا الحَدث، يقدّمه يسوع نفسُه في الآيات (الأعداد) ١٢-١٧. وقد قدّم ٱبنُ الله نفسَه مثلًا. فإذا لم يترفّع يسوعُ عنِ القيام بأحقر واجبات الخادم، فلا ينبغي على أخصّائه أن يشعُروا بالاستعلاء والتفوّق ومن ثمّ الابتعاد عن مدّ يد العوْن لجيرانهم. إنّه قانون أساسي في ملكوت الله، لا أحدَ يتحكّم في الآخر ويتسلّط عليه. كلّما كان الشخص أكثرَ أهمية وارتفع، كلّما كان خادمًا للآخرين واتّضع ــ هذه هي الرسالة الواضحة المبتغاة من غسْل الربّ للأرجُل، إلى كنيسة المسيح.

وفيما يتعلّق بيهوذا الإسْخَرْيوطي، لا يأتي يوحنّا على ذِكر أيّ نزاع جارٍ. بطرس، من ناحيةٍ أخرى، كان شخصًا قويًّا جدًّا ولم يتمالك من البقاء صامتًا، فكسر الصمت رافضًا بأنّ على يسوعَ أن يخدُمَه. كلمات يسوع الثاقبةُ تُظهِر مكانَ الإنسان أمامَ الله: حتّى لو كان هناك شعور بالإذلال والإهانة، لا أحدَ يقوى على الوقوف بدون خدمة من المسيح. وهذه الخدمة في طبيعتها ليست خيالية وبعيدة، بل مادّيّة ملموسة جدّا. في جلوسه القُرفُصاء عند بطرس، يسوعُ هو نفسه المُعاني وخادمُ الله الذي، بعد بِضع ساعات فقط سيُجلد ويعذّب، سيوضعُ إكليلٌ من الشوك على رأسه، ويُسمَّر على الصليب، يقطُر دما.

بطرس يعرف موقفَه ومكانته ولكن، بطبيعة الحال، بطريقة خاطئة وساذَِجة: فكلّما كان يسوع يغسِله، كلّما كان ذلك أفضل. كلمات يسوع هي بجلاء إشارةٌ إلى المعمودية المسيحية. حتّى لو كانت هذه الكلمات دلالية فقط وتتّصل بظرف تاريخي معيّن، فنحن نفهم رسالتها. المعمودية تمنحُنا إمكانية الشَّراكة مع يسوع. ومثل بولس الرسول في رسائله (رومة ٦) يُشير إلى أنّ المشاركة مع المسيح تعني التزامًا وواجبًا من جانبنا، وهكذا يوحنّا أيضًا، يربُِط المسيح، الذي هو الهِبة والعطيّة، بالمسيح، الذي هو مثالٌ وقُدْوة لنا.

كلمات هذا القسم الأخيرةُ تُعِدُّ السامعين لما ينتظرهم. والنُّبوءة في سِفر المزامير ٤١: ٩ على وشك أن تتحقّق. المشاركة في تناول الطعام أمرٌ مقدّس في الشرق الأوسط. يذكُر كاتب سِفْر المزامير كيف أنّ شخصًا ما يكسِر وينقُض هذا التقارب الخاصَّ بإيماءة إزدراء، من خلال رفع كعب حذائه بوجه المضيف. يهوذا الإسْخَرْيوطي يخونُ يسوع، ولكن هذا يُبرز أمرين: كتابُ اللهِ المقدسُ يتحقّق، ويسوع المسيح قد يشرح الأمورَ لأخصّائه مُقدّما، ليعلموا أنّه ”هو من هو“ - ويستعمل يسوع مرّة أخرى الاسم ”أنا هو“ الذي يشير الله به إلى نفسه.

لَحَظاتُ يهوذا الإسْخَرْيوطي المروّعةُ ١٣: ٢١-٣٠

يُمكننا بالكاد أن نتخيّل رُعب يهوذا، عندما يواصِل يسوعُ الحديثَ عن الخيانة. وتلي ذلك بعضُ الأحداث الغامضة عمدا.

عند تناول الطعام، يميل بطرس نحوَ الشخص الجالس بجِوار يسوعَ ليسألَه - كما يظهر همسًا- من هو الخائن. لا يُجيب يسوع بطريقة قد يفهمها المستمعون. إنّه يواصل تطويرَ موضوع الفكرة الرئيسية في المزمور الواحد والأربعين بالقول، إنّ الخائنَ هو الذي ناوله لُقمة الخبز. بعد ذلك مباشرة، وتمشيًّا مع التقاليد اليهودية في إظهار صداقة حميمية جدًا، يغمِس كِسرةً من الخبز في صَلْصة ويُعطيها ليهوذا.

هكذا أظهر له يسوعُ أنّه أقربُ الأصدقاء، ممّا جعل يهوذا يعبُر الحدودَ من دون رجعة. الشيطان يُغريه في شيءٍ من شأنه أن يجعل اسم يهوذا خالدا. بدون معرفة ما جرى، فإنّ التلاميذ يعتقدون أنّ أمينَ الصندوق قد خرج في اللحظات الأخيرة للقيام ببعض التسوّق، أو لتوزيع الصدقات على الفقراء، كما جرت العادة في عيد الفسح. وبالصُّدفة، تُبيّن هذه الكلمات القليلةُ أنّه وَفْقا ليوحنّا أيضًا، كانت آخر وجبة تناولها يسوع عَشاء الفِسْح، لأنّه عادةً لم يكن من الممكن شراء أيّ شيء ليلا.

يهوذا يترُك الشراكة، التي منحه إيّاها اللهُ لرؤية النور الذي جاء به يسوع. وليس من قَبيل المصادفة أن يُنهي يوحنّا هذا المشهدَ بعبارة ”وكان ليلا“.

في المشهد نفسه، حيث ذهب فيه يهوذا أخيرًا في دروبه المنفصلة، هناك تبرُز للعِيان شخصية غامضة، ”التلميذ الذي أحبّه يسوع“. ليس فقط عندما كان هو وبطرس يركضون إلى القبر الفارغ (٢٠: ١-١٠)، ولكن في مناسبات أخرى أيضًا، إنّه دائمًا يكون بضع خُطْوات قبل بطرس حتّى. عند العَشاء يحتلّ مكان الشرف، بجانب يسوع. لديه الجرأة ليأتي وليشهدَ موت يسوعَ على الصليب، ويسوع يفوضّه برعاية أُمّه مريم (١٩: ٢٥-٢٧). عندما راح التلاميذ لصيد السمك، إنّه أيضًا أوّلُ من يعترف بالربّ (٢١: ٧). ولكن مَن هو يا تُرى؟

إن كان الحديث عن شخص حقيقي، فمن الأسهل التعرّف على هويّته. على ما يبدو، كان هناك اثنا عشرَ تلميذًا فقط في العَشاء الأخير. سبعة فقط ذهبوا لصيد السمك، وبطبيعة الحال، لا يرِد بطرس في الحسبان. في الأصحاح الأوّل (١: ٣٥-٤٠) منَ الواضح بما فيه الكفاية، عدم ذِكر أيّ تلميذ معيّن. بناءً على هذا وعلى تقليد الكنيسة، يُمكن القول بأنّ المقصودَ هو التلميذ الحبيب، يوحنّا بن زبدي.

في سيناريو آخرَ، هذا التلميذ ليس شخصًا حقيقيًا على الإطلاق، ولكنّه شخصيةٌ يمكن للقارىء من خلالها أن يرى آلامَ المسيح. ربّما كان من الممكن أيضًا، دمج هاتين الفكرتين: كما كان تأثير بطرس حيويًّا بالنسبة لخلفية إنجيل مرقس، فالتقليد وراء إنجيل يوحنّا كذلك يعتمد على يوحنّا، عملاق الكنيسة الأولى.

في الطريقِ إلى الصليب ١٣: ٣١-٣٨

إنّ خروجَ يهوذا لتنفيذ فِعلته، هو آخرُ شارة ليسوعَ المسيح. الآن أمامَه طريقُ المعاناة والآلام، وفي نهاية المطاف يكون الصليب. في طريق آلامه، يُطلِق ٱلابنُ أشعّةَ مجد الآب، تمجيدًا له. هذا هو المجد الذي تسطَع به كلماتُ يسوعَ الدافئةُ والمُحبّة إلى أخصّائه. عرضًا، إنّ عبارة ”أبناء صِغار“ - المستعملة للدلالة على الأطفال الصغار والتي يستخدمُها يسوعُ هنا، ترِد فقط في رسالة القدّيس يوحنّا الرسول الأولى (١ يوحنّا ٢: ١، ١٢، ٢٨) في العهد الجديد. وهذا يعكِس الحبّ الذي يمنحُه يسوعُ المسيحُ لخاصّته كسِمَة مميّزة لهم.

يستطيع يسوعُ أن يستشْرف الطريق أمامَه بوضوح، في حين أنّ حالةَ بطرس مختلفةٌ تماما، فهو لا يعرف ما الذي يُخبّىئه له المستقبل. كما أنّه لا يعرف الطريقَ إلى يسوعَ، ولا حتّى لنفسه. عندما يُنجزُ ٱبنُ الله الرسالةَ التي وكّلها به الآبُ، يفعل ذلك وحدَه، بدون أيّة مساعدة من البشر.