إنجيل يوحنا اصحاح ٨ - نورُ العالَم يأتي منَ الجليل

بقلم: 
إركّي كوسكِنيمي، دكتور في اللاهوت
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

يسوع المسيح والمرأة الزانية ٧: ٥٣-٨: ١١

إنّ قصّة يسوعَ والمرأة الزانيةَ في أورشليمَ مثيرةٌ للإعجاب ورائعة. النقطة الحاسمة، هي أنّ يسوع هو صديق الخُطاة.
هذه القصّة تُشبه النقاش الواردَ في الأناجيل المتوافقة (الثلاثة الأولى) حولَ عِملة الضرائب: مهما كان جواب يسوع، فإنّه لا محالةَ واقعٌ في الفخّ. كان من المستحيل إيجاد توافق بين شريعة موسى وصداقة الخُطاة. وكان لا بدّ من اتّخاذ القرار في اختيار: إمّا الامتثال للشريعة والسماح للناس بقتل المرأة (سفر التثنية ٢٢: ٢٢ــ٢٤) أو التغاضي عن خطيئة المرأة، وبالتالي إنكار شريعة موسى.

ماذا سيفعل يسوع؟ ردود فعله تُظهر سيطرته المطلقةَ على الوضع. كتابتُه على الأرض بالكاد تحمِل أيّ مدلول خاصّ. إنّه ينتظر فقط أن تتكشّف الدراما لتغيير مسارها. إنّ سلوكَه الرصين الهادىءَ يُبيّن أنّه لن يُساق بقساوة للردّ. جملة واحدة من يسوعَ، كانت كافيةً لانصراف مهاجميه عنه. أوّلًا كِبار السنّ والأكثر حكمةً، ومن ثَمّ فهِمت بقيتُهم بوجوب الانكفاف، الابتعاد. وأخيرًا، بقيتِ المرأة فقط وغفر لها يسوعُ المسيح وأرسلها إلى حياة جديدة.

النورُ يسطعُ منَ الجليل ٨: ١٢-٢٠

نعود الآنَ إلى نهاية الأصحاح السابع. هناك نلاحظ أنّ خُصوم يسوعَ رفضوه قائلين إنّه لا توجد نبوءات بأنّ نبيًّا يجب أن يظهر من الجليل. وهكذا، فإنّهم ينسوْن نصًّا مسيانيًا هامًّا جدّا: كتاب إشعياء يحمل نُبوءةً تقول إنّ أرض زَبولون ونفتالي المهانة ستُبصر نورًا ساطعًا (إشعياء ٩: ١). ورأسًا بعد هذه نجد نبوءة عيد الميلاد، وبموجبها سيأتي أميرُ السلام لتحرير شعبه، ”لأنّه يولد لنا ولدٌ ويُعطى لنا ٱبنٌ وتكون الرئاسة على كتفه“. (إشعياء ٩: ٥).

وهكذا فإن الإنجيليّ، الذي أشار أعلاه إلى أنّ المسيح سيولد في بيتَ لحم، يجمع بين توقّعين بكلمة واحدة من يسوع: كان على المسيح أن يأتيَ من بيتَ لحم ومن الجليل. وفي الطريقة ذاتها يجمع بين طبيعتي شخص يسوع: حتّى لو كان بعضُ الناس يعرفون عن ولادة يسوع الطبيعية، خلافًا لما كان متوقّعًا من المسيح، فإنّهم لم يعرفوا ولا ٱعترفوا بأصله الإلهي. وبما أنّهم ما عرفوا الآب، ولم يتمكّنوا من معرفة الابن، بل كرهوه وبحثوا عن فرصة لإطفاء النور الذي بعثه الله. نعود ثانيةً إلى النشيد التمهيدي، ”والنور يُشرق في الظلمة، والظلمة لا تقوى عليه“ (يوحنّا ١: ٥).

”أنا هو“ - طبيعةُ يسوعَ المسيحِ الحقيقيةُ ٨: ٢١-٣٠

يسوع يتكلّم عن ذهابه من هذا العالَم، ومرّة أخرى يُسيء اليهود فهمَ كلماته. مرّة أخرى، ربّما كان هذا ليس سخرية وتهكّمًا بل هو عمىً مطبِق وعجزٌ في رؤية نور الله. وتبقى ذُروة تعليم يسوع غامضةً للمستمعين. يوحنّا لا يعتبر الآبَ وٱلابنَ واحدًا في أيّ موضع آخرَ كما يفعل هنا.

يُخبرنا العهد القديم كيف أنّ النبيَّ موسى مندهشًا قدِ ٱستفسر عنِ ٱسم الله، فأجابه الله قائلًا: ”أنا هو الذي هو، هكذا تُجيب بني إسرائيل: هو الذي أرسلني إليكم“ (سفر الخروج ٣: ١٤).

هذا هو الاسم الذي يستعمله يسوع لنفسه في الجُمل التي يصعُب ترجمتُها إلى اللغة الإنجليزية. ”ستموتون في خطاياكم. نعم، ستموتون في خطاياكم، إذا كنتم لا تؤمنون أنّي أنا هو“ (يوحنّا ٨: ٢٤). أولئك الذين لا يفهمون أنّ الآبَ وٱلابنَ واحدٌ، سيظلون سُجناء الموت بسبب الخطيئة. أمّا أولئك الذين يفهمون هذه الوحدانية ويعترفون بأنّ الابن جاء من الآب ليكونَ نورَ العالم، فستُغفر خطاياهم. بعض الناس يُقرّون بهوية يسوع الحقيقية، بينما يُنكر آخرون ذلك ولا يروْنها. وينطبق الأساس ذاتُه أيضًا على ما قاله يسوع ”الذهاب بعيدا/الذهاب من هذا العالَم“ و ”رفعه“. إنّ أولئك الذين يُنكرون الصلة ما بين المسيح والله، يروْن أنّ ”ذهابه بعيدًا“ معناه موت المجدّف و”رفعه إلى الأعلى“، معناه رفع شخص مدنَّس على الملأ ليسخرَ ويهزأ منه الجميع. وأولئك الذين فتح الله عيونَهم لرؤية العلاقة بين الآب والابن، يروْن ذهابَه هذا بأنّه صُعودٌ إلى مجد الآب، وأنّ صليبَه مدعاةٌ عظيمة للفرح والابتهاج.

بنو إبراهيمَ أم إبليس؟ ٨: ٣١-٥٩

القطعة التي نتناولها الآنَ حاسمةٌ بالنسبة لوضع إسرائيل القانوني بعد مجيء يسوعَ إلى العالَم. يتحدّث يسوع لليهود، ويلاحظ أنّ يوحنّا غالبًا ما يستخدم كلمة ”اليهود“ فقط عند الإشارة إلى اليهود الذين رفضوا يسوع (طبعًا، يسوع نفسه وجميع الرُّسل كانوا يهودا). الآن يتكلّم يسوع إلى اليهود الذين آمنوا به، ولكنّ النقاشَ يضع كلّ شيء تحت ضوء جديد. ”الإيمان“- كلمة غامضة جدًّا في إنجيل يوحنّا - قدِ اكتسبت طبيعة سطحيةً ظاهرية. لم يكن هذا النوع من الإيمان الذي يعترف بيسوع أنّه ابنُ الله الذي أصلح ذات البين بشأن خطايا العالَم وهو نورنا الوحيد في الظلام. وسُرعان ما اندلع الخلاف الشديدُ بين المتحاورين. اليهود يرفضون يسوع، ويبرّرون ذلك بأنّهم بنو إبراهيم. وهكذا، فهم يعتقدون أنّه باستطاعتهم امتلاك كلّ الوعود التي أعطاها الله لإبراهيم.

يسوع يرفُض هذا الادّعاءَ بشكلٍ صريح وفظّ جدًّا: لم يكنِِ المعارضون أبناءَ إبراهيم بل أبناء الشيطان. رأى إبراهيم سلفًا مجيءَ المسيح للعالَم وفرح وابتهج. الناس بدلًا من ذلك رفضوا المسيح وسعوا لقتله. واليهود الذين يرفضون المسيحَ ولا يؤمنون بأنّه جاء من الآب، لا انتماءَ حقيقيًّا لهم لابراهيم.

كانت هذه الرسالة موضوعيةً حتّى في الوقت الذي دُوّن فيه إنجيلُ يوحنّا. ثمّ كان المسيحيون يعيشون أيضًا حالةً، رفض فيها شعبُ الله يسوعَ. لا ريبَ أنّهم في ذلك الوقت أيضًا، قد برّروا أنفسهم كأبناء إبراهيم. إذن ماذا كانت فائدة الانتماء لشعب الله؟ هذه القطعة قيدَ المناقشة الآن تعرِض إجابة واضحة جدّا: إذا كان شخص ما يرفُض يسوعَ، فإنّ الانتماءَ إلى الشعب المختار لا فائدةَ له على الإطلاق. وهكذا فإنّ الشَهادة التي يُقدّمها يوحنّا هي بالضبط نفسُ شَهادة بولس الرسول الذي يستشهد بإشعياء، ”وإن كان بنو إسرائيل عددَ رمل البحر، فلا يخلُص منهم إلّا بقيّةٌ (رومة ٩: ٢٧ ).

عند بداية السِّجالُ، كان يسوعُ يخاطب الناسَ الذين آمنوا به، وقد تمحور التعليم ُعلى هويّته الحقيقية. اليهود رفضوا هذا التعليم وسعوا لقتل يسوع. وهكذا فإنّهم لم ينجحوا، لا في الإيمان بيسوعَ، ولا بقتله - لم يكُن من السهل جدًّا إلقاء القبض على يسوع.