إنجيل يوحنا اصحاح ١٨-١٩- طريقُ الآلام

بقلم: 
إركّي كوسكِنيمي، دكتور في اللاهوت
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

الآلامُ الأربعة

ننتقل الآن لمناقشة الألم كما يعرِضه المبشّر الرابع يوحنّا. إنّ مقارنة مفصّلةً مع ثلاثة تقارير الأناجيل الأخرى بخصوص الألم، تدلّ على أنّ جوهر الألم متشابهٌ جدًّا في كافّة الأناجيل الأربعة. ومع ذلك، فإنّ لدى كلّ بشير توكيداته وتفاصيله الخاصّة به.
البشير مُرْقُس، كاتب أقدمِ إنجيل، قد أرْسى الأساس بِناءً على مصادره ومقدّماته. لم ينسخ أيّ من خُلفائه البشيرين آليًّا (ميكانيكيًا) عمل سلفه؛ بدلًا من ذلك، أضاف كلّ واحد منهم تفاصيلَ ومجالاتِ تركيز خاصّة به. وهذا يدلّ على أنّهم كلّهم كانوا على صلة بالمعرفة التقليدية الحقيقية والوثيقة بالأحداث.

كما ذُكر آنفًا، يوحنّا عرف أسلافه، على الأقلّ مرقس. لم يرَ يوحنّا أنّ واجبَه أن يكرّر بالتفصيل ما سرده الآخرون. إنّه يحذِف بعض السياقات الهامّة بشكلٍ مدهش، ومنها بالإضافة إلى نظام القُربان المقدّس المذكور من قبلُ، صلاة الصراع في الجثمانية (الجسمانية) واجتماع المجلس. وقد أتى على ذِكر هذه الأحداث الثلاثة الهامّة في مكان آخرَ في إنجيله، كإحالات موجزة.

وهو يُخبرنا الآنَ بما يراه مناسبًا، ويتضمّن معلوماتٍ جديدة ومفصّلةً مستمدّة من مصادرَ مهمّة. يُمكننا أن نرى أولى هذه الحقائق حتّى في مشهد اعتقال يسوع. يوحنّا هو الوحيد الذي يُخبرنا أنّ التلميذ الذي استلّ سيفه كان بطرس، وأنّ اسم الخادم الجريحِ كان مَلْخَس.

إنّها عظمةُ يسوعَ التي تُسلّط الضوءَ على الألم في إنجيل يوحنّا. في وقتٍ سابق، كان قد كتب عن إنسانية يسوعَ، حزنِه ومِحنته. والآن يسيرُ ابن الله وهو قويُّ الإرادة الى الموت؛ خاطفوه تراجعوا ووقعوا على الأرض. بيلاطُس البُنْطيّ خائفٌ مذعور، ولكنّ ابنَ الإنسان يعرف مُقدّمًا كلَّ خطوة ومرحلة من آلامه.

يسوعُ المسيحُ معتَقَل ١٨: ١-١٤

البشير يوحنّا لا يقول لنا شيئًا عن صلاة الصراع في الجسمانية، وحتّى لا يذكُر اسم الحديقة. في موضع سابق من إنجيل يوحنّا، هناك فقرة يقاتل فيها يسوعُ في معركةٍ مماثلة، لتلك المعارك الموصوفة في الأناجيل المتوافقة، أي الثلاثة السابقة (يوحنّا ١٢: ٢٣-٣٣). الكلمة الهامّة في إنجيل يوحنّا المأخوذةُ من سالفيه هي: الآبُ أعطى الابنَ الكأسَ ليشربَها. إنّ الكأس التي يلتمس يسوعُ المسيحُ إبعادَها عنه (مرقس ١٤: ٣٦) تُذكّرنا بالفقرة الواردة في سفر إرميا ٢٥: ١٥، ”وقال لي الرب إلهُ إسرائيلَ: خُذ كأس غضبي هذه من يدي وٱسْقها جميعَ الأمم التي أُرسلها إليها“. رسالة يسوع المسيح كانت شُربَ كأسِ غضبِ الله تكفيرًا عن خطايا العالم أجمع، وبهذا أزال الخطيئة.

كلُّ من كان متواجدًا في الخارج في الليل، يُدرك أهميةَ وَثاقة الصلة بيهوذا. حتّى مع ضَوء البدر في عيد الفسح، فإنّه سيكون من الصعوبة بمكان، التعرّف على الرجل الصحيح من بين اثني عشرَ رجلًا يتحرّكون هنا وهنا. وأيّة محاولة فاشلة كانت ستؤدّي إلى اندلاع اضطرابات في القدس المتقلّبة والمتقلقلة دينيًا، في الصباح. وقد يكون ما فعله سمعان بطرس بسيفه بمثابة محاولةٍ للنجاة، والخروج بسرعة من كلّ هذه المعمعمة، المحنة .

يسوعُ المسيح لا يُحاول تجنُّبَ خاطفيه بل يُواجههم برِباطة الجأْش، جوابُه على سؤالهم إشكاليٌّ مبهم، ”أنا هو“، سِمة من سمات هذا الإنجيل. والقضية المطروحة الآن هي وحيُ الله، وهكذا تراجع الخاطفون إلى الوراء، وجلين مذعورين، وبالكاد كانت لديهم الشجاعة للقيام بمهمّتهم.

يوحنّا يعلَم جيّدًا هويّة الكهنة الذين تواجدوا وقتَ صلب يسوع وموته. كان حنّان الكاهن الأكبر (٦-١٥م.)، ولكنّ الرومان عزلوه عن منصبه. وقد شغَل العديدُ من أقاربه المنصب. وعندما أراد الشعبُ أن يأخذ يسوعَ المسيح إلى صانع القرار الحقيقي، توجّهوا أوّلًا إلى حَنّان. وبعد ذلك فقط راحوا إلى قَيافا، الذي كان في منصبه بين السنتين ١٨-٣٧ م.

بطرس يُنكِر يسوعَ المسيحَ ١٨: ١٥- ١٨

البشير يوحنّا لا يذكُر هروبَ التلاميذ، وقد يكون سببُ ذلك الوحيد أنّه توقّع أنّ قرّاءَه على عِلم ودِراية بذلك. ”التلميذ الآخر“ الغامض، الذي هو، على الأرجح، نفس ”التلميذ الذي أحبّه يسوع“، يدخُل، بكلا المعنيين الحسّي والمجازي، من خلال أبوابٍ لا تُفتح لبطرس. ويستند الألم الذي يجري الآن كشفُه إلى ناقل تقاليدَ متبحّر للغاية؛ التعرّف على الكاهن الأكبر يعني معرفة الكثير، عمّا حيكَ خلفَ الكواليس، والشخص الذي تناول العَشاء بجانب يسوعَ المسيح قد عاين كلّ شيء عن كثب.

تكون الليالي في جبال يَهودا في شهر نيسان باردة، وبالكاد كانت نار الفحم قد وفّرت بعضَ الدفء والملجأ لبطرس، الذي أنكر إيمانَه عندَ البوّابة حيثُ كلّمه حارسُها.

”شعبُه لم يقبَلْهُ ...“ ١٨: ١٩-٢٤

على ضَوء ما قرأنا في إنجيل يوحنّا حتّى الآن قد تعلّمنا، بأنّ الناسَ كانوا أكِفّاء ولم يُبصروا النور الذي أرسله اللهُ إلى العالَم. ويُمكن رؤيةُ ذلك في التقرير القصير الذي يعرِضه يوحنّا، بدلًا من قِصص الأناجيل الثلاثة السابقة التي تصف اجتماعَ المجلس. حنّان الذي يمثّل الشعب المختارَ، أعمى عن الحقيقة وعاجزٌ عن اتّخاذ قرار الحُكم الصائب. ونتيجة ذلك، يُضرَب يسوعُ المسيحُ، يؤخَذ موثّقًا إلى قَيافا رئيسِ الكهنة. من قصّة يوحنّا هذه، نخرُج بانطباع مفاده بأنّ يسوعَ المسيحَ كان محتجَزًا هناك لبقية الليلة.

قصّة يوحنّا منسجمة مع قِصص الأناجيل المتوافقة السابقة (متّى ومُرْقس ولوقا)، لا سيّما مع قصّة لوقا. عند لقاء يسوعَ أو رُسله ببعض الفرّيسيين، كانت تنشُب في كثير من الأحيان سِجالات ساخنة. ومع ذلك، أظهرت النزاعات أن هناك، على الأقل، بعضَ قنوات الاتّصال بينهم. الوضع مع الصدّوقيين الذين يمثّلون كهنوت الهيكل مختلفٌ تماما. على ما يبدو، لم يكن واردًا في الحسبان قطّ لصدوقيّ أن يدعو يسوعَ المسيحَ لتناول العَشاء معه في بيته، مثلما فعل سمعان الفرّْيسي (لوقا ٧: ٣٦-٥٠). عندما جاء الصدّوقيون أوِ الكهنة الكبار، فإنُهم في أحسن الأحوال، كانوا يُظهرون ازدراءهم (مرقس ١٢: ١٨-٢٧)، إنّهم أولائك الذين تورّطوا في سفك دماء كلٍّ من يسوع وتلاميذه.

بطرس يُنكرُ المسيحَ ثانيةً ١٨: : ٢٥-٢٧

عندَ الباب، كان بطرس قد تخلّص منَ الخادمة بعبارة ”ما أنا منهم“. وهنالك حالة أكثرُ إرباكًا وحرجًا نجمت عن نار الفحم وسَطَ الرجال الواقفين. يُصبح الوضع خطرًا، عندما يتعرّف أحدُ أقرباء مَلْخَس (أي: ملك، الصيغة اليونانية لكلمة ميلِخْ العبرية، عبد رئيس الكهنة الذي قطع سمعان بطرس أُذنَه اليمنى وأعادها يسوعُ المسيح إلى مكانها، يوحنّا ١٨: ١٠) الجريح من قبلُ، على بطرس. بطرس يُنكر يسوعَ، والديك يصيح، ولكن يوحنّا لا يذكُر أنّ بطرس قد ذرف الدموع. مسألة الإنكار تعود مرّة أخرى في الأصحاح الأخير من إنجيل يوحنّا، وإذا أمكن، بطريقة أكثر إثارة.

بيلاطُس البُنْطِيّ يستجوبُ يسوعَ ١٨: ٢٨ـ ٣٨

كان الرومان قد منحوا اليهود حُكمًا ذاتيًا واسعًا، إلّا أنّهم أبقوا على أهمّ القرارات لأنفسهم، ومن بينها الحقّ في إدانة شخص حتّى الموت. ولهذا السبب، كان من الواجب أن يُسلَّم يسوعُ إلى الحاكِم الروماني لإصدار الحُكم.

شغل الحاكم الرومانيُ في مِنطقة اليهودية (أيوديا)، بيلاطُس البُنْطيّ منصبَه بين العامين ٢٦-٣٦م. ما كان وراء تعيينه، على ما يبدو، هو السياسة المعادية بلا رحمة للسامية، التي اتّبعها لوكيوس إيليوس سيانوس (سياسيّ وقائد روماني، ٢٠ق.م. -٣١م.). وتصف المصادر اليهودية المعاصرة بيلاطُس بأنّه مسؤولٌ ظالمُ قاسٍ، غير بارع، وكثيرًا ما كان يُسيء عمدًا إلى اليهود. في نهاية المطاف، وبعد أن تفاقمت أعمال سفكه للدماء، عزله رئيسه الأقرب، المندوب السوريّ لوكيوس ڤيتيليوس (قبل ٧ ق.م. -٥١م.) من منصبه وأرسله إلى روما للمساءلة. على ما يبدو، كان قد انتحر هناك في العام ٣٩م. خلال أسبوع الآلام كان بيلاطُس في وضع مُتقلقل، محفوف بالمخاطر، بسبب بعض الأخطاء التي ارتكبها، ومنَ الممكن أن مؤيّدَه ونصيره، سِيانوس، كان قد أُعدم بالفعل سنة ٣١م. برع اليهود في استغلال النزر من الحرية السياسية التي توفّرت لهم تحت السلطة الرومانية. وهذه الحقائق تساعدُنا على فهم سبب وصف الأناجيل للحاكِم الروماني بأنّه متردّد؛ وأنّه لم يكُن قادرًا على تحمّل وقوع أيّة أخطاء جديدة.

إنّ الاستراتيجية التي ٱستخدمها اليهود كانت صريحة ومفهومةً جدًا تاريخيا. لم يهتمّ الرومان بإدانة أيّ شخص حتّى الموت بسبب انتهاك يوم السبت. ومن أجل التخلّص من يسوعَ المسيح، كان يجب أن يوصفَ كشخص يُحاول أن يُصبح ملكا. لذلك، عند وقوفه في فِناء القصر، على ما يبدو، قصر هيرودس، تواجدت مجموعتان من الناس متناحرتان، تحتقر الواحدة الأُخرى بشدّة. كان اليهود بحاجة إلى بيلاطس، لكنّهم لم يرغبوا في دخول البناية. ”بيوت الأمم (الوثنيين) نجسة“، هذا ما يقوله التعليم اليهودي العامّ. فيها، قد يكون شيء ما (وبخاصّة صور الآلهة الكاذبة، الدجّالين) التي من شأنها أن تدنّس اليهودي وتتطلّب منه ربّما أُسبوع من العزلة قبل أن يتطهّر ثانية، وهذا ما لم يرغَب فيه أحدٌ قبل حُلول عيد الفسح. لذلك اهتمّ ممثّلو شعب الله بنظافتهم، طهارتهم، وانتظروا بيلاطُسَ في الخارج لكي يحكُم على ٱبن الله بالموت، الوضع مروّع، ولا شكّ أنّ يوحنّا نفسَه قد شعر بذلك أيضا.

بيلاطُس البُنْطِيّ غير راغب في التعامل مع هذه القضية. ولكن عندما نظر فيها أخيرًا، كان سلوكه تُجاهَ اليهود مُفعمًا بالإزدراء. المسألة المطروحة على بِساط البحث، هي ملكية يسوع، كَونه ملِكا. يسوع لا يُعطي بيلاطُس جوابًا واضحًا عاديًّا، لا في الأناجيل الثلاثة السابقة (المتوافقة) (أُنظر مرقس ١٥: ٢) ولا هنا في إنجيل يوحنّا. الكلمات مبهَمة عن قصْد، لا سيّما في إنجيل يوحنّا: يسوع ليس ملكًا أرضيًا، ولكنه لا يزال هو المسيح، الملك، الذي أرسله اللهُ إلى العالَم. يسوع لم يأتِ باحثًا عن السلطة والسلطان بل ليأتيَ بالحقيقة للعالَم. وعلى الرغم من أنّ بيلاطُس حاكمٌ وقاضٍ، فإنّ عليه مواجهة مسألة الحياة والموت ذاتها، كأيّ إنسان آخر. الحياة والموت، الظلام والنور، العمى أو الانفتاح على حقيقة الله. إنّه يسأل - ”الحقيقة - ما هي“؟. لم يكن بيلاطُس أحدَ الذين ”وُلدوا، ليس من الدم، ولا من رغبة الجسد، ولا من إرادة الإنسان، ولكن من الله“.

إنّ كلماتِ بيلاطُس بشأن الحقيقة والحقّ ما زالت راهنةً بشكل مُدهش. خلال ذلك الزمن، كانت هناك عقائدُ ومذاهبُ فلسفية تقول إنّه لا وجودَ لإجابات مؤكّدة حول نواحي حياة الإنسان، لا حقائق موضوعية. كان يُنظر نحو العالَم بشكّ وارتياب، ورفض وجود حقيقة خالدة مُلزمة للجميع (وخاصّة من قبل المتشكّكين).

إنّ أكبرَ تحدٍّ عقائدي تواجهه المسيحية في عصرنا هو: أساس المسيحية هو أنّ الله وإنجيلَه هما الحقيقة النهائية والمطلقة، ولكنّ التفكير الغربيّ الراهنَ، ينظُر إلى كلّ هذه الحقائق بأنّها نسبية، هنالك وفرة من الحقائق لدى مختلف المجموعات. وهكذا، نحن بصورة تدريجية بصدد صياغة نمط أو نوع جديد تمامًا من المسيحية، وهذا غير صائب، وفيه يكوّن ويُبلوِرُ كلّ واحد إلهَه وطريقته الخاصّة في الحياة، وفيها نور الشمعة الجميل والخبرات والتجارب العاطفية تحلّ محلَّ المسائل العقائدية المذهبية. وهذا الوضع، لا يشكّل تهديدًا لكلّ فروع الإيمان المسيحي فحسب، بل لماهية جذوره. ولكن منِ الذي يُدرك هذا ويدُقّ ناقوسَ الخطر قائلًا إنّ كلمة الله التي أصبحت جسدًا هي الحقيقة، فوق كلّ الحقائق.

الحُكمُ على يسوعَ المسيحِ بالموت ١٨: ٣٨-١٩: ١٦

كان عيد الفِسح مهمًّا جدًّا لليهود، وجوهره ولبّه وجبة عَشاء الفِسح. وٱعتبرت دعوةُ شخصٍ للمشاركة في عَشاء الفسح عملاً صالحًا، لا سيّما عند بقاء ذلك الشخص محرومًا من ذلك لو لم يُدعَ؛ ومن ضمن أولائك كان السجناء. ليس ثمّة عِلم بأيّة حالات فعلية للعفو عن السجناء في عيد الفسح سوى ما ورد في الأناجيل. ومع ذلك، فإنّ هذا الجزءَ من الألم متناغم جيّدًا مع شرائحَ أخرى معروفة.

في إشارته إلى باراباس (المجرِم المسجون الذي طُلب إطلاقُ سراحه وأن يُصلب يسوع الناصريّ)، يستخدم يوحنّا لفظة ”لصّ“، مرقس يُخبرنا أنّه ارتكب جريمةَ قتل في الفتنة (مرقس ١٥: ٧). هذه النُتف من المعلومات تتّفق مع بعضها البعض: رجل، من وُجهة النظر اليهودية، كان مقاتلًا من أجل الحرية، كان مجرّد إرهابي ولصّ في نظر الرومان. البشير يوحنّا لا يذكُر الحقيقة بأنّ باراباس قد أُطلق حقًّا سراحُه بدلًا من يسوع. بيلاطُس يختار طريقته الخاصّة محاولًا حلّ الوضع. إنّ تعذيبَ يسوعَ المسيح ِ المريرَ يتجاوز فهمنا وإدراكنا. لا ريبَ أنّ الجَلد بالسوط قد أدّى إلى موت يسوعَ المسيح على الصليب في خلال بضْع ساعاتٍ فقط. فقدان ما سال من الدم من جرّاء الضرب، والحرارة عند الظهر تسبّبا في هلاك يسوع سريعًا..

ورافقت هذا التعذيبَ سُخريةُ الجنود الحاقدة. تمّ جلب ثوبٍ أرجواني ملكي مكلِف. ضُفر إكليلٌ من الشوك. والجنود الذين خدموا في فلسطينَ كانوا، في الأساس، متجنّدين في سوريا، ويقينًا كانوا أعداءً لليهود. والآن عندما يمسُِك هؤلاء الناس ملكَ اليهود، تُفرز شماتتُهم السادية (التمتّع بالتعذيب) أسوأَ ما في داخل الطبيعة البشرية.

رواية يوحنّا تُعطينا الانطباع بأنّ بيلاطُس البُنْطيّ قدِ ٱستخدم التعذيب بالسوط والسخرية كوسيلةٍ لمحاولة الإفراج عن يسوعَ المسيح. وهو الآن يُحضر يسوعَ ليراه الجميع. هذا الرجل بالتأكيد لم يعُد يشكّل أيّ خطر على أيّ شخص؟ الملك المعذَّبُ يُجابه غيظ شعبه، والآن فقط يسمع بيلاطُس الاتّهام الحقيقي: هذا الرجل جعل نفسه ابنَ الله. إنّه يسأل يسوعَ وهو مرعوب مُرْتاع، عن أصله الحقيقيّ، ولكنّه لم يتلقَ جوابا. لم يبقَ شيءٌ يمكن أن يساعد بيلاطُس بعد الآن؛ لقد سيق بإرادته لمأزقٍ في غاية الصعوبة. في هذه المرحلة من حياته المهنية في المناصب العامّة، لم يعُد قادرًا على تحمّل أيّة شكاوى بصدد إطلاق سراح رجُل كان يحاول أن يُصبح ملكا. اليهود يُنكرون مسيحَهم، وبدلًا من يسوع، يختارون الإمبراطور الذي يكرهونه. هكذا، حدث أكبرُ إجهاض وإخفاق للعدالة في التاريخ.

وَفقا للبشير مُرقس١٥: ٢٥ كان يسوع قد صُلب في الساعة الثالثة أو، كما لنا أن نقول، في حوالي الساعة التاسعة صباحا. وبحسب البشير يوحنّا، كانت الساعة السادسة (حوالي الظهر). إنّ التباين الطفيفَ بين البشيرين يُظهر فقط أنّ لكلّ كاتب عن الموضوع، كانت مصادره الخاصّة، وما كانوا ليرضوا بتكرار أسلافهم آليّا (ميكانيكيا).

يسوعُ المسيحُ يُصْلَبُ ١٩: ١٦-٢٧

يصف يوحنّا البشير دربَ يسوعَ المسيحِ إلى الجُلْجثة (الجُمْجُمة) وصلبه، في جُمل قليلة وبسيطة. وفي انتقام خسيس ضدّ القادة اليهود الذين احتقرهم، علّق بيلاطُس نقشًا (كتابةً) على الصليب: ”مَلك اليهود“، وهذا هو سبب الحُكم بالإعدام. وكان ذلك بمثابة تذكير لجميع المارّة بهويّة حكّام الأمّة الحقيقيين. كان اليهود يفضّلون عبارة ”أنا ملك اليهود“، إلّا أنّ بيلاطُس أراد أن يوضح أنّ ما جرى لملك اليهود قد يحدُث لجميع الملوك اليهود.

يبدو أنّ قِوى الشرّ على الصليب في استشراء (مستشرية). عند تسمير الابن على الصليب، ما كانت هناك حاجة لملابسه بعد، فقُسّمت بالقُرعة أمام ناظريه. ومع ذلك، فإنّ هذا العمل العدوانيَّ يُظهر أنّ الأحداث تتكشّف وَفق خُطّة الله الكبرى. إنّ كلماتِ سفر المزامير ٢٢: ١٨ ”ومنَ الهُزال أعُدُّ عظامي، وهم ينظرون ويتفرّسون فيَّ“ تتحقّق الآنَ وهذا يعني أيضًا أنّّ الأخبار السارّة المذكورة في آخر هذا المزمور ستتحقّق.

أعزّ تلاميذ يسوعَ كان واقفًا بجانب الصليب. يسوعُ يعهد والدته لرعايته. أكان ذلك لأنّه ٱبنُ عمّ يسوع؟ في الواقع، البشير متّى في ٢٧: ٥٦ يذكر أن أمّ ٱبني زَبدي كانت بجوار الصليب، ويذكر يوحنّا أن شقيقة والدة يسوعَ كانت من بين النساء القلائل هناك (١٩: ٢٥، وهناك، عند صليب يسوع، وقفت أمّه وأخت أمّه مريم زوجة كِلوبا، ومريم المجدلية). أيًّا كان الحال، فالإنجيل الرابع يستند إلى تقليد مسيحي راسخ موثّق.

يسوعُ يموتُ ١٩: ٢٨-٣٧

حافظ البشير يوحنّا على طريقته في الكتابة حتّى النهاية؛ إنّه لا يتحدّث عن الظلام، أو عن صرخة يسوعَ اليائسة، أو عن حُرقته في الصلاة الوداعية. ومع ذلك، يسوع يعاني كإنسان حقيقيٍّ وليس ككائن روحاني وغائب، كما علّم بعضُ الناس حتّى في زمن يوحنّا. الذي يموت على الصليب هو الملك، الذي لم يتِمّ كسرُ قوتّه وشوكته في التعذيب الجحيمي عند اكتمال رسالة الآب، يسوع يُضحّي بحياته.

وبموجب ناموس النبيّ موسى، كلّ من كان مُعلقًا على شجرة، يجب أن يُدفن قبل غروب الشمس، لئلّا ينجِّس ذلك الشخصُ، الذي لعنه الله الأرضَ المقدّسة. وحينما طلب اليهود من بيلاطُس إنزالَ الجثث، لم يكن ذلك بسبب الرأفة بأولئك المصلوبين الذين كانوا يعانون على الصليب، ولكن ليتمكّنوا منَ الاحتفال بعيد الفسح طاهرا. في هذه الحالة، كسرُ الأرجل الفظيع والمروّعُ أدّى إلى نزيف دموي داخلي، فموت سريع.

عند قدوم الخبراء إلى يسوعَ، لم يحتاجوا إلى أكثرَ من إلقاء نظرة عليه على الصليب ليتأكّدوا أنّه لم تعُد هناك أيّة حاجة لاستخدام إرْزَبّة، مِطرقة ثقيلة . ملك اليهود كان ميتًا كأيّ إنسان عادي، وللتأكّد من ذلك طُعن يسوعُ بحربة في جَنبه فخرج منه الدم والماء. بعد عقود من الجدل والخلاف، يبدو أن الأطبّاء قد توصّلوا إلى نوع من الاتّفاق على أنّ هذا الأمرَ ممكنٌ، إذا ما مات الشخص قبلَ لحظة فقط.

ماذا يقصِد يوحنّا، عندما يقول إنّ الدم والماءَ خرجا من جَنب يسوع؟ ليس هناك تفسير جيّد. ربّما قصد أن يقول إنّ أنهار ماءٍ حيّ تفيض منه، (يوحنّا ٧: ٣٨). ربّما يودّ الإشارةَ إلى المعمودية حيث عنصرُ الماء وإلى الشَّركة المقدّسة ذات الصلّة بالدم. وربّما أنّه مجرّد الحديث عن حَدث استثنائي أضفى انطباعًا قويًّا على الشاهد الذي كان واقفًا بجانب الصليب. وهذا الشاهد هو الذي، بطريقة أو بأخرى، الواقف من وراء إنجيل يوحنّا.

يسوع يقدّم حياته ولكن ليس كضحية عنف بلا طائل. كما أنّ في لحظة موته، يحدُث ما يدلّ على أنّ كلّ شيء قد جرى وَفقًا لخُطّة الله. إنّ ثُقبَ الحربة والجروحَ التي سبّبتها المسامير تفي بما ورد في سِفر زكريا ١٢: ١٠. اقتباسٌ آخرُ من الكتاب المقدس يتعلّق بموضوع مهمّ جدًا لدى يوحنّا: يسوع هو حَمَل عيد الفسح الذي أنشأه الله. مثل الفسح اليهودي (سفر الخروج، الأصحاح ١٢) الذي أخرج الناسَ المستعبَدين من العبودية إلى الحرية، ولذلك أيضًا حَمَل الله، الذي ضُحّي به من أجل خطايانا، سيأخذ الخُطاةَ من الظلام إلى النور.

دفْنُ يسوعَ ١٩: ٣٨-٤٢

تُشير جميع الأناجيل إلى أن يوسف الرامي (Joseph of Arimathea، عضو في السنهدرين، المجلس اليهودي الأعلى، تلميذ يسوع في الخَفاء، أصله من قرية الرامة إلى الشمال الغربي من أورشليم) قد دفن يسوع. يضيف يوحنّا لذلك رجلاً سبق أن تجرّأ وجاء لرؤية يسوع ليلًا فقط، ولكنّه بعد ذلك، وبطريقته الخاصّة، تحلّى بالشجاعة للدفاع ودافع عن يسوعَ في اجتماع المجلس (إنّه نيقوديموس تلميذ يسوع سريًّا، عضو في السنهدرين، ذُكر اسمُه أربعَ مرّات في إنجيل يوحنّا). عملية الدفن تمّت على جناح السرعة. واعتاد اليهود على غسل الموتى، ولكن لا ذِكرَ البتّةَ لهذا في الأناجيل الأربعة. عِوضًا عن ذلك، كان لدى الرجلين كميةٌ ثمينة وكبيرة من الطيب، المرّ والعود، وزنها ثلاثون كيلوغراما. حظي يسوع المسيح بمراسم دفنٍ ملكية بسرعة البرق.