عقيدة الأنواع - ما هو التفسير التيپولوجيّ للكتاب المقدّس؟

بقلم: 
د. إركّي كوسْكِننيمي
ترجمة وتدقيق: 
حسيب شحادة

تتكوّن اللفظة اليونانية - التيپولوجيا- من مقطَعين ومعناهما معرفة النمط أو الضرْب؛ والمقصود بٱختصار شديد علاقة شخص أو حدَث ما (تيبوس) وارديْن في أسفار العهد القديم بمثيليهما في أسفار العهد الجديد. وبالخلاصة، يُمكن القولُ إنّ ما رُوي عنه بشأن الوعد وصدقه في العهد القديم يتحقّق في العهد الجديد. ويُذكَر أنّ هذا المنهجَ في شرح وتفسير العهد القديم كان سائدًا في حِقَب المسيحيّة الأولى بخاصّة ومن ثمّ في العصور الوسطى. ورمت تلك الشروح إلى أنّ أنبياءَ العهد القديم قد أشاروا في كتاباتهم ليسوعَ المسيح. ويرتكز منهاجُ التيپولوجيا على ما يُدعى بٱلاقتباسات الرجعية، مثلًا مقارنة عِظة يسوعَ المسيح على الجبل بعِظة كليم الله موسى على الجبل عند تسلّمه الوصايا العشْر؛ مقارنة آدمَ بيسوعَ المسيح؛ ربْط عُبور بحر سُوف بالمعموديّة والطعام السماوي وماء الصخرة بالأفخارستيا (لفظة يونانية معناها: إقولُ شكرًا؛ سرّ التناوُل، القُربان المقدّس)؛ حيّة موسى النُّحاسية وٱجتلاب يسوعَ المسيح للحياة عن طريق صلبه؛ قذف الحوت يونانَ بعد ثلاثة أيّام وقيام يسوعَ المسيحِ من الموت بعد ثلاثة أيّام؛ إخوة يوسفَ يبيعونه ويهوذا يخون يسوعَ المسيح.

هنالك الكثيرُ من الفَقَرات في الكتاب المقدّس، التي قد يصعُب قبولُها. من بين جميع تعليمات الكتاب المقدّس التي أعرِفُها، هنالك، على أيّة حال، تعليمة تبدو سهلة جدّا: ”أُذكُروا زوجةَ لوط!“ (لوقا ١٧-٣٢). عند قراءة قصّة سَدُوم وعَمُورة (سفر التكوين الأصحاح التاسع عشر)، أفهم ما يعنيه هذا الأمرُ إذ ما فُسِّر حرفيًّا: إذ قرّر الله تدميرَ المدينة التي تعيش فيها ويُرسل الملائكةَ لينقُلَك من هناك إلى بَرّ الأمان قبل الدمار، وأُمرتَ بعدم الالتفات والنظر إلى الوراء، إذن لا نلتفتُ وننظُر إلى الوراء! ولكن من النادر جدًّا أن يُواجه المسيحي مثل هذا الوضع، وإذا واجهناه، فربّما نتمكّن من إطاعة الأمر.

إنّنا حقًّا نفهَم جميعًا أنّ كلماتِ يسوعَ المسيح يجب أن تُفهم بطريقة مختلفة. إنّ ”سَدُوم“ لم تبقَ وتُعرَف كمدينة، لكنّها تعني هذا العالَم. كما أنّ ”مغادرة سَدُوم“ لم تعُد تعني المشيَ بعيدًا، بل فصل المرء نفسَه روحيًّا عن عالَم الشرّ. إنّ ”النظرَ إلى الوراء“ ليس مجرّدَ نظرة خاطفة على كتفك، بل الرجوع إلى طريقة الحياة القديمة التي حُرّرت منها.

تقدِّم قصّة سَدُوم لقارئ الكتاب المقدّس فَقْرةً واحدة منَ العهد الجديد، حيث نصُّ العهد القديم فيها غير مُفسَّر حرفيا. وهنالك الكثير من طُرق التفسير والتأويل غير الحرفي، ويُطلق على أحدها أسلوب معرفة النمط (الضرب)، ويتضمّنُ إيجادَ نمط أو تصوّر سبقيّ (رؤية مُسبَقة) لشيءٍ ما أكبرَ وأهمَّ في نصّ العهد القديم . في هذا النصّ، ”سَدُوم“ هي نمط أو تصوّر سبقيّ للعالَم و”ترْكه“ هو مسيرتُنا الروحية. وهذا النمط - وجودُنا في طريقنا - يتكرّرُ كثيرًا في مواضعَ أُخرى في العهد الجديد وفي التعاليم وفي تقليد الكنيسة الترنيميّ أيضًا.

طُرق كثيرة للتوضيح

تفسير التيپولوجيا، معرفة النمط (الضرب)، أي التفسير القائم على الأمثلة والنماذج، شائع جدًا في نصوص العهد الجديد، ولدى آباء الكنيسة الأوائل، ووفْقًا له، هنالك، كما كان، مخطّط تمهيدي (مِسودّة) أو نمط أو برنامج عمَل في العهد القديم، والعمل المكتمل فنيًّا، أكان نسيجَ قُماش أو بناءً، يتجلّى في أسفار العهد الجديد. إنّ أوّلَ عِظة معروفة بعدَ العهد الجديد، هي بقلم القدّيس المطران مِليتون مِليطون، ميليتوس)، السرديسي (ت. حوالي العام ١٩٠)، وبهذه الكلمات يصِف سرَّ الفِصح وغموضَه في خُطبته الممتازة ”عن عيد الفصح“:

”أحبّائي، لا يحدُث كلامٌ أو واقعة بدون مثال أو تصميم؛ إنّ كلَّ حدَث
وكلام ينطوي على مثال أو قالَب ما، ذلك المتحدَّث به نمط، وذلك الذي
يحدُث، تصوّر سبْقيّ، بغية الكشف عن الحدث من خلال ذلك التصوّر، وكذلك
من الممكن أيضًا التعبير عن الكلام من خلال مخطّط تمهيدي.

بدون النمُوذَج (المِثال، القُدوة)، لا يُمكن إنجاز أيّ عمل فنّي. فهل
هذا هو ما سيتجلّى من خلال النموذج الذي يصوّره؟ لهذا السبب، فإنّ
نموذجًا (مسطرة) ما يُصنع منَ الشمع أو من الطين أو من الخشب، وبسبب
صِغَر النموذج فهو لا محالة سيُهدم، وعندها يُمكن رؤية ذلك الشيء
المتكوّنُ منه - أعلى منه حجمًا وأصلب منه قوّةً وأجمل منه مظهرًا،
وأكثر تفصيلاً منه في الزخرفة.“

تعلّم مِليتون التفسير التيپولوجيَّ للكتاب المقدّس من صفَحات العهد الجديد، وقارئُ الكتاب المقدّس العاديُّ لديه الكثير ليتعلّمه من هذا.

الخُروج من مصرَ وصولاً إلى أرض الميعاد!

قد يكون النموذج (النمط) الأكثرُ شهرةً في العهد الجديد، هو خُروج بني إسرائيل من مصر، وهو يتعلّق بحياتنا الروحية أيضا. وقدِ ٱستَخدم هذا النمطَّ في العهد الجديد كلٌّ منَ الرسول بولُسَ (رسالة كُورِنْثوس الأولى، الأصحاح العاشر ) وكاتب الرسالة إلى العبرانيّين (الأصْحاحان ٣-٤) المجهول. ومن المُمكن رؤيةُ نفس النمط في كلا الموضعين: بنو إسرائيل أسْرى في مصر، أطلق الله سراحَ الشعب تحت قِيادة النبيّ موسى، وبدأوا رحلتَهم إلى أرض الميعاد. وبالمثل، كان كلُّ البشر عبيدًا في أرض الخطيئة والموت، وقد أعتَقَنا الله بقيادة يسوعَ المسيح، وبدأنا مشوارَنا نحوَ السماء. ومع ذلك، فإنّ الرحلةَ طويلةٌ ومحفوفة بالمخاطر، وفي طريقنا سنُواجه الكثيرَ منَ الصعوبات والإغراءات. ولهذا السبب سينسحبُ الكثيرون ولا يُكمِلون السير - وهذه هي النقطة المركزية للتحذير والإنذار في كلتا فقرتَي العهد الجديد الآنفتيْن.

وهكذا، في هذه القصّة، مصرُ هي نمطٌ أو نوع منَ العالَم، وتُستخدمُ القصّة بأكملها لِتذكير المسيحيّين بحقيقة أنّنا ما زلنا على الطريق سائرين. إنّ مِثال التفسير التيپولوجي سهْل الفهم.

الحيّة النُحاسية ويسوعُ المسيح

هناك تفسير تيپولوجي كتابي أيضًا في خلفية تلك الآية في الكتاب المقدّس، التي أَطلق عليها المُصْلِح اللاهوتي الألماني مارتن لوثر الإنجيل في صورة مصغّرة (يوحنا ٣: ١٦). وعندما تمرَّد بنو إسرائيلَ ذاتَ مرّة أكثرَ على الله، عوقِبوا بثعابينَ ملتهبة بينهم. وقد تألّم ومات كلُّ مَن لدغته تلك الثعابين السامّة. ولكن حينما كان الناس يُصلّون إلى الله في مِحنتهم، كُلِّف موسى بصُنع ثعبان نحاسيّ ورفعه على عمود، وقد شُفي ونجا منَ الموت كلُّ من أتى ورأى الثُّعبان. وفي خلفية الإنجيل المُصغّر، يوحنا ٣: ١٦، كما سمّاه مارتن لوثر، الذي رأى في هذا العدد جوهر وصفوة َما في الإنجيل برمّته ترد هذه القصة:

وكما رفع موسى الثُّعبانَ في البريّة، هكذا ينبغي أن يُرفَع ٱبنُ الإنسان، فقد يحظى كلّ مَن يؤمِن به بالحياة الأبدية. ” لأنّه هكذا أحبَّ اللهُ العالَمَ حتّى بذلَ ٱبنَه الوحيدَ، لكي لا يهلِكَ كلُّ مَن يُؤمن به، بل تكون له الحياةُ الأبديّة “ (يوحنّا ٣: ١٦) وينظر في العددين السابقين، ٣: ١٤-١٥ ”وكما رَفع موسى الحيَّةَ في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفَعَ ٱبنُ الإنسانِ . لكي لا يَهلِكَ كلُّ مَن يؤمِنُ به بل تكونُ له الحياةُ الأبديّة“.

أضحى النمط الآنَ جليًا: أفعى لدغت كلَّ إنسان وحقنت سُمَّ الخطيئة فينا. ذلك السمُّ يقتُلنا ويقُودنا إلى الدمار والهلاك. إنّ أملَنا الوحيدَ هو أن ننظُر إلى يسوعَ المسيح، الذي جعله الله أفعى نُحاسية شافية؛ وكلُّ مَن يؤمِن به سيفوزُ بالحياة الأبدية. إنّ يسوعَ المسيحَ بالنسبة لنا مثلُ الأفعى النحُاسية عندَ بني إسرائيل في البريّة. ويسوع المسيح رُفِع عاليًا على الصليب والله يعِد الآنَ أنّ كلَّ من ينظُر إلى يسوعَ بخشوع وإيمان سيحظى بالحياة الأبدية.

آدمان

في الأَصحاح الخامس من رسالة بُولُسَ الرسولِ إلى أهل رُوميةَ، يتحدّث بولُس عن آدمَ ويضعه نمطًا من المسيح؛ وقد نوقِش في فَقْرة طويلة (رومية ٥: ١٢-١٩) ويقول فيها الرسول، على سبيل المثال، ما يلي:

”لأنّه إن كان بخطيّة الواحدزقد ملَك الموتُ بالواحِد، فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيْضَ النِّعمة وعطيَّةَ البِرّ، سيملِكون في الحياة بالواحد يسوعَ المسيح“ (رومية ٥: ١٧).

إذن، المسيح هو آدم الجديد، ويمثِّل بِدايةَ عهْد جديد. لقد سقط آدمُ الأوَّل في الخطيئة، وٱستحقّ الخطيئةَ والموت والهلاك. وأورث آدمُ أولادَه هذا الإرثَ ونحن تلقّيناه من أسلافنا جيلًا تلوَ جيل؛ وكلّ واحد منّا سيموت لأنّنا خُطاة، ومصيرُنا هو الدمار والهلاك. وآدمُ الجديد أي المسيح، الذي ٱستحقّ القداسة والحياةَ والخلاص الأبديَّ، هو الوحيد القادرُ على مساعدتنا هنا. إنّ آدمَ الجديدَ هذا لن يُدمِّر البشرية جمعاء، بل سيمنحُها الحياة وينفّذ خُطّةَ الخلْق الأصليةَ - عيشُ الإنسان باتّحادٍ مع الله.

وفرةٌ منَ الأنماط

إنّ العهد القديمَ زاخِرٌ بالأشخاص والأشياء التي تتجلّى كأنماط عندما ننظُر إليها من وِجهة نظَر العهد الجديد. وينصحُنا المطران السرديسيّ المذكورُ أعلاه في عِظته ”حولَ عيد الفصح“:

”لذلك، إذا كنت ترغَب في رؤية سرّ الربّ، فٱنتبه جيّدًا إلى هابيل الذي قُتل كذلك، إلى إسحاقَ الذي قُيّدت يداه وقدَماه، إلى يوسفَ الذي بيعَ، إلى موسى الذي وُضِع في سَفَط من البرديّ وهو طفل وتُرك على حافّة نهر النيل، إلى داؤودَ الذي لوحِق وقُبض عليه، وإلى الأنبياء الذين قاسوا وكابَدوا لأنّهم كانوا مَمسوحين للربّ أيضًا.“

لقد عرف المطران مِليتون كتابه المقدّسَ وكان بوُسعه سرد الأمثلة. قد يكون منَ الآمان الاقتصار على تلك الأمور التي يعتبرُها العهد الجديدُ أنماطًا، وما أكثرَها. في رسالة رومية ٨: ٣٢ تبدو تضحية إبراهيمَ غيرُ المكتمِلة كنوعٍ منَ التضحية في الجلجثة. ويضَع يسوعُ المسيحُ يونانَ الذي كان في بطْن حوتٍ عظيم نموذجًا له (متّى ١٢: ٤٠). ونوح الذي بنى الفُلْك، هو نوعٌ من الأشخاص الذين منحهُمُ الإيمان عيونَ الإيمان (الرسالة إلى العبرانيّين ١١: ٧)، وفُلْكُه هو نوع منَ المعمودية (١ بطرس ٣: ١٨-٢٢)، والمن هو نوع من عَشاء الربّ (كورنثوس الأولى ١٠: ٣).

هنالك أمثلةٌ لا تُعَدّ ولا تُحْصى - إنّ فهمَ الأنماط تفتح أمامَنا الكتابَ المقدّس من منظور جديدٍ، ويُعلِّمنا أن نجمَع بين العهدين - القديم الجديد.