لاهوتُ الصليب ولاهوتُ المجْد

بقلم: 
د. إركّي كوسْكِننيمي
ترجمة وتدقيق: 
حسيب شحادة

هناك نقطتا ٱستشراف: ”لاهوت المجد“ و ”لاهوت الصليب“. في ”لاهوت المجد“، تكون قوّة الله واضحةً للجميع وترغَب في أن تكون كذلك. وفي ”لاهوت الصليب“ يُخفي الله قوتَّه ويخبّئها في الضَّعف. إنّ أفضلَ تعبير عن هذا يتجسّد في الجُلْجُثة (الجُلجلة، الجُمْجمة) حيثُ يسوعُ المسيح الضعيف والمعذَّب، الذي يُخفي مجدَه، قد أحرز أكبرَ ٱنتصار؛ ولهذا السبب يُطلق عليه لاهوتُ الصليب. كان ذلك عزيزًا على مارتن لوثر بنحوٍ خاصّ ويردُ في ثنايا الكتاب المقدّس ويبيّن الطريقة التي يعمَل بها إلهُنا الحبيب.

تفاخُر بولسَ بضَعفه

يأخذُ الإصحاحُ الثاني من رسالة كُورِنثُوس الأولى القارئَ إلى رَسول إنسانيّ جدّا. لم تكُن بدايةُ جولة بولُس الأولى إلى أوروبا مريحةً بأيّ حالٍ من الأحوال، ففي فيلِبّي ضُرب وزُجّ به في السجن. ومن تسالونيكي ٱضطرّ للفرار حِفاظًا على حياته، وفي أثينا تعرّض للسخربة فقط. ولم يكُنِ الرجلُ الذي سافر إلى كُورِنْثُوس رسولًا من الطراز الأوّل، بطل إيمان ذا أعصاب فولاذية، بل كان رجلًا وَجِلًا خائفًا بكلّ بساطة. ومع ذلك، في كُورِنْثُوس سيّئة السُّمعة بالذات، تمكّن الرسولُ منَ العمل بسلام ولمدّة عام ونصف، كما تمَّ هناك تأسيسُ كنيسةٍ نشطة وقوية. وقد وُصِفت مرحلة هذا العمل الأولى في رِسالة بُولسَ الرسولِ الأولى إلى أهل كُورِنْثُوس. وفي رسالة كُورِنْثُوس الثانية، يكتُب بولُس لخُصومه المتَعَجْرفين مُفتخرًا بضَعْفه وإعيائه. ولهذا السبب بالذات، فإنّ رسائلَ كُورِنْثُوس ممتازةٌ في تعليم حقيقة كتابية مهمّة، لاهوت الصليب.

إبراهيم - رجُل فقير يُحِبُّه اللهُ

تضمّ الأَصحاحاتُ الأولى منَ الكتاب المقدّس (سِفْر التكوين ١-١١) على العديد من الرِّوايات، وبشكل خاصّ عن حياتَي هابيل ونوح، التي تُلقي الضوءَ على لاهوت الصليب. وبعدَ ذلك مباشرةً، يبدأ الكتاب المقدّس في الحديث عن كيفية تكوين الله شعبًا له، إنّه لن يُؤسِّسَ لنفسه شعبًا جاهزًا وقويًا، ولكنّه يختار رجُلًا بدويًّا هو أبونا إبراهيم الخليل. وفي أعقاب مراحلَ عصيبة ومؤلمة، في البِداية يُصبح الزوجان العاقران أُسرة، ثمّ تكبُر وتمتدُّ لِتُصبحَ قبيلةً فشعبًا في آخر المطاف، تعدادُه مثل نُجوم السماء ورِمال البحر. وقبلَ ذلك، كان إبراهيمُ يتجوّل هنا وهنا كشخصٍ غريبٍ في أماكن الآخرين، ينظُر إلى الوراء إلى وعود الله، خوفًا من غضب فرعون مصرَ، والحُزن يعتريه والخزي والعار بسبب عدم الإنجاب. إنّ الدرسَ على جبل الله عسيرٌ بشكل خاصّ، حيث يتلقّى إبراهيمُ مهمّةَ تقريب ٱبنه الوحيد إسحاقَ قُربانًا لله. كثيرًا ما تكون القوّة والحكمة الهادئةُ بعيدتين الواحدة عن الأُخرى، حينما يُلقى الفقيرُ في خِضّم عواصف الحياة. ولكن في وسط مثل هذه الاضطرابات، وُلد شعبٌ تحقّقت فيه مشاريعُ الله العظيمة.

لماذا جعل الله طريقَ إبراهيمَ صعبًا لهذا الحدّ؟ لماذا لم يتمكّن من تكوين شعبه بطريقة مُثيرة للإعجاب، بحيث كان من الممكن عرضُها على الجميع بكلّ فخرٍ وٱعتزاز؟ الله أعلمُ، نحن لا علمَ لنا. ولكن في نهاية المطاف، لم يُصبح إبراهيم أبَ أُمّة عظيمة فحسب، بل أصبح أبَ الإيمان والمرشدَ لجميع أُمَم العالَم أيضا.

موسى - رجُل الله ووحيدٌ بٱمتياز

عندما عاش بنو إسرائيل في العُبودية في مصرَ، دعا الله موسى لقيادة شعبه إلى الحرية. وقد نشأ موسى وترعرع كٱبن فرعونَ، ولكنّه عندما لاحظ عبودية شعبه، ٱختار الوقوفَ مع شعبه. لذلك، ٱضطرّ إلى الفرار إلى البرية، حيث عاش مع المديانيين مدّةَ أربعين عامًا. وبعد هذه الفترة فقط، عند توقّد العلّيقة بالنار، تلقّى موسى دعوةَ الله وسار للقيام بمهمّته في مواجهة أعتى حاكِم في العالَم آنذاك. وفي عِبارات بني البَشَر، كانت الموارد التي توفّرت لموسى ضئيلةً إلى حدّ ما: زوجته وٱبناه وحماره وعصا. وبعد مصاعبَ جمّة، قاد بني إسرائيلَ من مصرَ إلى البريّة، حيث تاهُوا لمدّة أربعين عامًا وتمرّدوا عليه بٱستمرار.

إنّ لاهوتَ الصليب يظهَر بجلاءٍ مع موسى، وُلد في خطر مُميت، ولم تُنقذ حياته إلا بمعجزة من الله. ولكونه رجُلًا حادَّ المِزاج، فقد قتل مصريًا كان يضرِب إسرائيليًا، ولذلك كان على موسى أن يهرُب لوحده. ماذا جرى بعد ذلك؟ لا شيء. لقد رعى موسى الغنمَ أربعين سنة في الصحراء وبنو إسرائيل يكدحون ويشقون في العبودية. إنّ اللهَ يُخفي قوَّته؛ يُرسل موسى لتحرير شعبه بدون أيّة موارد بشرية. يُخفي الله قوتَّه في الضعف، ولكن هكذا تلقّى الناس عونَ الله.

تجدُر الإشارة هنا إلى أنّ لاهوتَ المجد ليس بالضرورة خاطئًا في كُلّيّته. أدّتِ الضرباتُ العشرُ التي أنزلها الله بواسطة موسى إلى غَرق فرعون على ركبتيه، وأجبره على تحرير بني إسرائيل. وستظهَر قوّة الله عند الديْنونة أيضًا، ومن الجيّد تذكّرُ ذلك. إنّه لأمرٌ جيّد تذكُّر لاهوت الصليب، لا سيّما حيثُما يُغرى المسيحيّون إلى الغُرور وتعظيم النفس.

حنّة ومريم - ٱمرأتان مبارَكتان

نشأ قُرّاء الكتاب المقدّس منذ آلاف السنين وتربّوا على ضوْء مصائرَ مؤثّرة لنساء في الكتاب المقدَّس. إحدى هذه الروايات هي قصّة حنّة والدة النبيّ صَمُوئيل العظيم (سِفر صموئيل الأوّل ١-٢). وكانت حنّة بدون أطفال، ومعنى هذا في ثقافتها أنّها كانت تحمِل عبئًا ثقيلًا منَ العار. وإنّ حُبَّ زوجها الموصوفَ بصورة رائعة، لم يخفِّف من حُزنها العميق. وهذه الامرأة المكروبةُ، تصُبّ كلَّ همِّها وشجَنِها في الصلاة في هيكل الربّ. إنّ هذه المرأةَ ولا أحدَ غيرها، هي التي أَصبحت أمَّ صموئيل العظيمِ السعيدةَ؛ إنّ صلاةَ حنّة في سِفْر صَموئيلَ الأوّل، الأصحاح الثاني، لجدّ رائعة.

منَ الجليّ أنّ حنّةَ في كتاب العهْد القديم هي مثالٌ لمريمَ العذراء (لوقا ١-٢). لم تكنِ ٱبنةً معجبًا بها لعائلة نبيلة ثريّة تمَّ اختيارُها لتكون أمَّ الربّ، بل كانت فتاةً فقيرة، وكان عليها أن تتحمّل خِزيَ الشكّ. توضّح تسبِحةُ مريمَ الفاتنةُ كيف أنّ الله يُسقِط الأقوياءَ والأثرياء من عُروشهم ويُمجّد الفقراء والجياعَ ويُكرّمهم. يشعُر شعبُ الله أنّه في البيت، حيث يكون الصغير والضعيف والمقموعُ المُداس. إنّ الأثرياءَ والحُكماء لا يطلُبون منه ولا يتلقّوْن الكثيرَ منه.

داؤود - فتىًى صغير وملِك ممسوحٌ بالزيت

أحدُ الأمثلة الجيّدةِ على كيفية إخفاء الله لقوّته في الضَّعف، يتجلّى في اختياره ملكًا ليحُِلّ محلَّ شاؤولَ الذي ضلّ. وقد أُرسِل النبيُّ صَموئيل إلى قرية نائية، إلى يَسّى، الذي قدّم أبناءَه السبعةَ إلى صَموئيل، الواحد تلوَ الآخر، ولكن لم يكن من بينهم ذلك الذي ٱختاره الربّ (داؤود). الفتى الراعي الصغير داؤود فقط هو الذي ٱعتلى العرْش.

وقد تحقّق ذلك بشكل مثيرٍ للدهشة، حتّى بالنسبة لطريقة التفكير الإنسانية، حينما حكمتِ العائلةُ ذاتُها في القدس مدّةَ أربعة قُرون ونصف من الزمان. ولكن قبلض كلّ شيء، تمّ ذلك بشكلٍ خفيّ وغير متوقَّع: بعد فُقدان بيتِ داؤودَ للسلطة بقرونٍ من السنين، تحقّقتِ الوعود الأبدية، جاء يسوعُ المسيح، ٱبن داؤود، وجلس على عرْش أبيه.

صيّادو السمَك غيرُ المتعلِّمين

لمّا بدأ يسوعُ المسيح خِدمتَه على الأرض، تواجد، على ما يظهر، في دائرته القريبة فلاسفة حُكماء أو سياسيون بارعون حاذِقون. إنّهم لم يُقبَلوا، وٱختار الربّ مجموعةً من الصيّادين غير المتعلّمين على شاطئ بُحيرة طبربا (بحر الجليل) ليكونوا تلاميذَه. لم يكن أيٌّ واحدٍ منهم صالحًا أو بدون عيوب ومثالبَ ليكون مستشارًا. وفي اللحظة الحاسمة، خذَل كلُّ واحد منهم ربّه وولّى هاربا. ولكنّ اللهَ قدِ ٱختار هؤلاء الجُهلاء الساقطين المنغَمِسين في المعاصي، وأُرسِلوا إلى كلّ العالَم. وقد أُضيف إلى المجموعة شاؤولُ، أشدُّ مضطهِد حماسةً للمسيحيّين، وهو الذي أصبح بولُس ولم ينسَ ماضيه أبدًا.

لم يتمّ ٱختيارٌ فريق منَ النجوم بل من الصِغار، الضعفاء والفُقراء. ولكن مع ذلك، لم يكن إعلان الإنجيل والتبشير به عن طريق الحِكمة البشرية وإنّما من خلال قوّة الله التي يتعذّرُ فهمُها. كان الله قويًّا في الضعيف - عندما تقدّم بُطرس المنكِر بجرأة أمامَ الناس في عيد العَنْصَرة ، وحينما توجّه بولُس برُكبتَين مرتجفَتين إلى كُورنْثوس.

يسوعُ المسيحُ في الجُثمانية

عسانا نعرٍف الآنَ كيف ننظُر إلى حياة المسيح، من زاوية جديدة. كانت حياته منَ البداية طريقَ الصليب. الذي كان على شاكلة الله أفرغ نفسَه وٱتّخذ شكلَ خادم. إنّه وُلد في مِذْود في زَريبة (إسطبل)، وزُعم أنّه ابنُ مريمَ، بعبارة أخرى، طفل غير شرعيّ. وقدِ ٱمتازت حياته كلُّها بالوَحْدة العميقة، سواء بين الحشود الغفيرة أو بالنسبة للأقربين إليه. يبيّن الأصحاح الثالثُ من إنجيل البشير مُرقُس أنّ عائلته ٱعتقدت أنّه كان مُختلًّا، أمّا الأَصحاحُ الثامن فيُخبرنا كيف حاول أقربُ تلاميذه إبعادَه عن طريقه في الصليب. كانت وَحدتُه في أوْجها خلالَ اللحظات الأخيرة من حياته. وفي الجُثمانية، يُصلّي ٱبنُ الله لأبيه، يتعذّب ويتصبّبُ دمًا. وكان الربّ على الصليب وحيدًا، كما يُمكن لأيِّ إنسان أن يكون.

لقد أُخفيت قوّةُ الله بٱكتراثٍ في حياة ٱبن الله. ومع ذلك، فقد أدرَكها وتعرّف عليها بعضُ الناس، ليس الحكماء أوِ الأغنياء ولكن الصغار والفقراء والخطاة . دعا المكفوفون مساعدَهُمُ الوحيدَ، مستغيثين، وتبعهمُ الفقراء، وفهِم جابو الضرائب الأثرياءُ جدًّا عندما رأوه، أنّهم أنفسُهم فُقراء جدّا. وعندما رأى أصدقاؤه الذين وضعوه في قبره، القائمَ الصاعدَ، لم تعُد قوّة الله خفيّة مستورة.

لاهوتُ الصليب ونحن

ماذا يُمكن أن يعني لنا لاهوتُ الصليب؟ تتكرّر الظاهرةُ ذاتُها في كنيسة يسوعَ المسيح: الفقراء والضُّعفاء والخُطاة يجدِون المسيح وقوّةَ الله الخفية الكامنة. وحينما يستقرّ وضعُهم ينشأ إغراء لإظهار قوّة الله كما في واجهة العرْض (الڤَتْرينا)، فتتوقّف الكنيسة عن كونها مستشفى الخُطاة حيثُ يعتني يسوعُ المسيح بالضُّعفاء. وعندها يتحوّلون إلى مجموعة منَ الأقوياء والثابتين، مجموعة لا يجرؤ أحدٌ فيها على الكشف عن ضعفه بعدَ الآن. إنّ الإيمان الذي فتح السماء ذاتَ مرّة للخاطئ، وكان معجزةً رائعة من الله، يُصبح فلسفةً عقلانية، والمسيحية تغدو نمطَ حياة حكيما. وفي المقابل يُصبح الضعفاء والمعلِّمون وغيرهم من حولهم أبطالَ إيمان. إنّ ٱلابتعادَ والنُفور عن كلّ سرِّ الصليب العميق، يتطوّر رويْدًا رُويدا. قوقعة (صدفة) خاويةٌ تبقى من هِبة الإيمان الرائعة. ما كان أكثر يُصبح أقلَّ فأقلّ بكثير.

إنّ لاهوتَ الصليب، الذي أكّد عليه مارتِن لوثر (١٤٨٣-١٥٤٦) إلى حدّ كبير، مختلف. ويكتشف هذا اللاهوت في الكتاب المقدّس مرّةً إثرَ الأُخرى أمثلةً تُظهر كيف يمُرُّ الله بالحكماء والأغنياء والقدّيسين ولكنّه يساعد الفقراءَ الخطاة الضعفاء. ولهذا السبب يفتح لاهوتُ الصليب الكتاب المقدّسَ كلَّه من منظور جديد.