الخَليقة، الكتاب المقدَّس ونظرية النشوء والارتقاء

بقلم: 
د. إركّي كوسْكِننيمي
ترجمة وتدقيق: 
حسيب شحادة

١) الخليقة، نقطةُ الإيمان المركزيةُ

يستهلُّ الكتاب المقدّسُ بالخليقة ويختِمُ بها. يرى الإيمانُ المسيحيّ بأنّ للعالَم لحظات بداية ولحظات نهاية، والعالَم بين هاتين النقطتيْن الزمنيّتيْن بيدي الله الذي خلق مِن لا شيء كلَّ شيءٍ مرئيّ وغير مرئيّ. إنّه الله الوحيد، لا بداية ولا نهاية له.
الاعتقاد في الخليقة هو معتقد مسيحي مركزي، إنّه جزء هامٌّ من الكمال والكليّة، حيث يجِد الإنسانُ مكانَه أمام َالمقدّس. هذا الاعتقاد يعلِّم كلَّ واحدٍ السبيلَ السليم لسلوكه في هذا العالَم، وحيالَ كلِّ ما في جُعبته. في الوقت ذاتِه، يقودُ إلى فهم الكتاب المقدّس بأكمله ورسالتِه المركزية: في الكتاب المقدّس يتحدّث الله، الذي خلق الإنسان ويدعوه إليه. الإيمانُ المسيحيّ في الخليقة/الخلق يقدِّمُ لنا العديد من وِجهات النظر، وهنا سأُشير إلى بعضها.

إنّ الكنيسة المسيحيةَ المؤمنة بالخلق، تثِق بالله القادر على كلّ شيء في العالَم، ذي السيادة بلا منافِسين. ليس بوُسْع الحُكّام الأشرار ولا عُظماء هذا العالَم ولا الخطيئة البشرية أن يشقّوا/يفلقوا القوّة في كلتا راحتيْه التي تمسِك العالَم بأسْره. إنّ اللهَ الذي خلق العالَم بكلمته، سيُنهي تاريخَه بكلمته أيضا. كما أنّ كلّ هذا النطاقِ الزمنيّ، يقعُ تحت سيطرته أيضا. في غُضون حِقَب العهد القديم، انطلق المؤمنون الذين وثِقوا بذلك، في رحلاتٍ خطيرة وٱعتمدوا على الخالق العظيم (سفر المزامير ١٢١: ١-٢. منذ زمن الوحي/الرؤيا ، وثِق المسيحيون المضطَهدون في ذلك والتمسوا من الربّ أن يعود ويُنصِف شعبَه (سفر الرؤيا ٦: ٩-١٠). في خِضمّ هذه الحالة منَ الاضطراب والفوضى، قد يكون من الصعوبة بمكان الاتّكال على قُدرة الله الكليّة. ومع ذلك، فهي ذُخر عظيم ومصدرُ أمل حتّى يوم الناس هذا.

جزءٌ منَ الإيمان بالخلق هو قبُول الحقيقة بأنّ اللهَ يهتمّ بكلّ إنسان. إنّ المؤمنَ في العهد القديم ينحني له، للذي عرف مرنّمَ المزمور قبل تكوّن مادّته، ويعرف كلَّ يوم قبل أن يأتي (سفر المزامير ١٣٩: ١٣-١٧). كلّ إنسان "قد خُلق بخوف وبعجب". ولهذا السبب بالضبط ، فإنّ كلَّ إنسان غالٍ، سواء كان رجلاً أوِ ٱمرأة، أو طفلًا لم يُولَد بعد أو شخصًا مسنًا، أسودَ أو أبيض، معافىً أو معاقًا، مسيحيًا أو مسلمًا. كرامة الإنسان واحدة، وهي مُلك للجميع بدون تمييز. وأيّ قدر من الخطيئة لا يقلِّل منها. كلُّ إنسان عزيز وغالٍ عند الله الذي يدعو الجميع إليه ويحبّهم. إن كلامَ يسوعَ المسيح حولَ كيفية رعاية الله للناس واعتنائه بهم معروفة ومؤثّرة:

” ٢٥. لذلك أقول لكم: لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكُلون وبما تشرَبون، ولا لأجسادِكم بما تلبَسون. أليستِ الحياةُ أفضلَ منَ الطعام، والجسدُ أفضل منَ اللباس؟ ٢٦. أُنظروا إلى طيور السماء: إنّها لا تزرَع ولا تحصُد ولا تجمَع إلى مخازنَ، وأبوكم السماويُّ يقُوتُها. ألستم أنتم بالحَرَيِّ أفضلَ منها؟ ٢٧. ومَن منكم إذا ٱهتمَّ يقدِر أن يزيدَ على قامته ذِراعًا واحدة؟ ٢٨. ولماذا تهتمّون باللباس؟ تأمّلوا زنابقَ الحقل كيف تنمو! لا تتعَبُ ولا تغزِل . ٢٩. ولكن أقول لكم: إنّه ولا سُلَيمان في كلّ مجدِه كان يلبَس كواحدةٍ منها. ٣٠. فإنْ كان عُشبُ الحقل الذي يوجدُ اليومَ ويطرَحُ غدًا في التنّور، يُلبِسُه الله هكذا، أفليس بالحريِّ جدًّا يُلبِسُكم أنتم يا قليلي الإيمان؟ ٣١. فلا تهتمّوا قائلين: ماذا نأكلُ؟ أو ماذا نشرَب؟ أو ماذا نلبَس؟ ٣٢. فإنَّ هذه كلَّها تطلبُها الأُمَم. لأنّ أباكُمُ السماويَّ يعلَم أنّكم تحتاجون إلى هذه كلِّها. ٣٣. لكنِ ٱطلُبوا أوّلًا مَلَكوتَ الله وبِرَّه، وهذه كلُّها تُزادُ لكم. ٣٤. فلا تهتمُّوا للغَدِ، لأنّ الغدَ يهتمُّ بما لنفسه. يكفي اليومَ شرُّه “ (متّى ٦: ٢٥- ٣٤).

ونرى أنّ اللهَ قد أعطى الإنسانَ رسالةً كما ورد في الإصحاح الأوّل من الكتاب المقدّس.”وباركهُمُ اللهُ وقال لهم الله: "أَثمِروا وٱكثروا وٱملأوا الأرضَ، وأخْضِعوها وتَسلَّطوا على سمَك البحر وعلى طيْر السماء وعلى كلّ حيوان يَدِبُّ على الأرض“ (سِفْر التكوين ١: ٢٨).

رسالة مماثلة ترِدُ في المزمور الثامن. لقد منحَ الله الإنسانَ مكانة فريدة في خليقته، ويتمخّضُ عن هذا شرفٌ كبير، ولكن مسؤولية كبيرة أيضا. إنّ الإنسانَ، بطريقة ما، بمثابة الوكيل في مزرعة الله. نعم، يحِقُ لنا أن نستفيدَ من الخلق ولكن القيام بذلك بمسؤولية أيضا. وعليه فلن نُدمِّرَ العالَم أو نُلحِق الضّررَ به لأنه ليس عالمنا. وبما أنّ كلَّ إنسان قد خلقه اللهُ، فهو بالتالي خادمُه. كلّ إنسانٍ سيقفُ ذات يومٍ للدينونة ويقدّمُ تقريرًا عن حياته. بحَسب إيماننا المسيحيّ، ليس بوُسْع أحدٍ أن يتحمّل الدينونة بدون ٱلاتّكال على يسوعَ المسيح، الذي جلب النعمة وغفرانَ الخطايا لكلّ من يثِق به.

٢. الكتاب المقدَّس والعلوم الطبيعية

بعد نشْر كتاب ”أصل الأنواع“ تأليف تشارلز داروين ٱندلع نقاشٌ ربّما لن ينتهي أبدًا. وقد تطوّرتِ العلوم الطبيعية خلال القرن ونصف القرن الماضيين، وكذلك فإنّ ردودَ الكنائس المسيحية على ٱلاكتشافات قد تفاوتت. يُمكن صياغة المشكلة الرئيسية بسهولة: إنّ إصحاحات الكتاب المقدّس الأولى تُخبرُنا كيف خلَق الله العالَمَ في ستّة أيّام. في حين أنّ للعُلوم الطبيعية وُجهة نظَر مختلفة حولَ أصل الكون، مراحل كوكبِنا الأولى وتطوّر الإنسان. ومن جهة أُخرى، يروي عِلما الفلك والبيولوجيا الحديثان قصّة مختلفةً عمّا في الكتاب المقدَّس، ويرى معظمُ العُلماء بأنّ نظرية النشوء والارتقاء هي، بلا ريب، أفضلُ تفسير لأصل الإنسان.

لقد ٱستُخدمتِ نظريةُ النشوء والارتقاء طوعيًا كبديل للدين، ولإرشاد الناس للتخلّي عن الله. وكرّر الكثيرون الشِّعار: ”أنا لا أومِن بالله، أنا أومِن بالنشوء والارتقاء “. بحسَب إيماننا، يجِب على كل مَن رحل عن هذه الدُنيا بهذا الإيمان، أن يُواجِهَ خالقَه وأن يقدِّم له حسابًا عمّا حصل في حياته. في حالة ٱستخدام نظرية النشوء والارتقاء للبرهنة على عدَم وجود الله (كسلاحٍ ضد الإيمان) فهذا يجعلُ هذه النظريةَ بدون إله، شرّيرة، مقوِّضة للإيمان. وعلى كلّ حال، ليس كلُّ من يؤيّد نظرية النشوء والارتقاء يستغلُّها كسلاح ضدَّ الإيمان. بعضُ المسيحيّين يعتقدون أنّه بالإمكان الجمع بين نظرية النشوء والارتقاء وإيمانهم، في حين أنّ البعض الآخرَ لا يقوم بذلك.

٣) كيف تمَّ تقييمُ نظرية النشوء والارتقاء؟

لقد ردّتِ الأوساطُ المسيحيةُ المحافظةُ على هُجوم الإلحاد بضربها نظريةَ النشوء والارتقاء وثغراتها. وبحسب نقّادها، فإنّه منَ الصعب جدًا، أو حتّى منَ المستحيل، تقديم سلسلة صُلبة من النشوء والارتقاء، وقدِ ٱستبدلتِ الحلقاتُ المفقودةُ من آنٍ لآخرَ بتفسيراتٍ واهية إلى حدّ ما. أضِف إلى ذلك، فإنّ ما تعتمدُ عليه هذه النظرية بأكملها علانيةً، هو أنّ ٱحتماليةَ الحياة وتطورَها نحوَ التنوّع والثراء المعروفيْن الآنَ ضئيلٌ للغاية.

في الوقت ذاته، هنالك داعٍ للقلق إزاءَ نوعية النقد المسيحي . تتمُّ دراسةُ نظرية النشوء والارتقاء وأصلُ العالَم في جامعات جميع أنحاء العالم. في بعض الأحيان، يخلُق هذا النقد ٱنطباعًا بأنّ هؤلاء العلماء، إمّا أنّهم مجموعة منَ الحَمقى أو أنّهم يتحدّثون بدون معرفة أيّ شيء بشكل أفضل. ولكن هل هنالك حقًّا مؤامرة عالمية من الحَمْقى الملحدين وهل هنالك حقًّا نيّة لجعلها عقيدةً مقبولة بهدوء وبلا إزعاج؟

يجب أن نَعي أن هناك مجالًا للإيمان وآخرَ للعلم، وكلاهما هامّان. الإيمان لا يعتمِد على البرهان والعقْل بل على إعلان الله. والعلم، من الجانب الآخر، يدرُس الواقعَ الذي يتكشّف ويظهر للمنطق البشري. ليس كلّ عُلماء الطبيعة كفّارًا ملحدين، ولا حتى أولئك الذين يؤمنون بنظرية النشوء والارتقاء. والجدير بالملاحظة أنّه في الجدال العامّ، عادة ما يظهر ويبرُز المتطرفون. من ناحية، فإن الذين يتحدّثون، هم أولئك الذين يستخدمون العلوم الطبيعية لدحض المسيحية، ومن ناحية أخرى، أولئك الذين يعارضونها بدون أن يتبصّروا جودةَ حُجَجهم وبراهينهم. وما يتبقّى ويحظى بٱهتمام أقلَّ، هو البحث الجادّ الذي لا يرمي إلى أيٍّ من هذه الأهداف، وكذلك الحال بالنسبة للباحثين المسيحيّين الجادّين، وكان أحدُهم قد لخّص موقفَه ببساطة هكذا: ”قد خلق اللهُ العالَم، والآن نحن نحاولُ معرفةَ كيف حدث ذلك“.

ذات مرّة ٱلتقيت بشابّ وشابّة مخطوبين بغيةَ الزواج في غُضون بضعة أسابيع. كلاهما كانا مسيحيّين مؤمنَين حقيقيّين وسيُصبحان قريبًا طبيبين أيضًا، لذلك كانت لديهما خلفية وطيدة في العلوم الطبيعية. ماذا رأى الخطيب عندما نظر إلى عروسه؟ كومة من العناصر ومجموعة من العمليات الفيزيائية والكيميائية؟ منَ الصعوبة بمكان إثبات أنّ هذا المنظور خاطئ. لحُسن الحظ، لم يكُن ذلك المنظورَ الوحيد الذي كان لديه، فهو قد رأى فيها أيضًا عروسه الحبيبةَ، التي أراد أن يشاركَها بقية حياته.

هنالك دائمًا وُجهات نظر متعدّدة للنظر إلى الأشياء، ومن الممكن أيضًا ملاحظة وإدراك العالَم وأصله من منظورين. ويسعى العلم لمعرفة المدى الذي يُمكن بلوغه. المسيحي من الناحية الأُخرى، ينحني إلى الخالِق العظيم ويبحَث عن مكانه الخاصّ. كل ّ واحدة من وجهتي النظر الآنفتيْن تعني رِسالة بالنسبة لنا.

إنّ نظريةَ النشوء والارتقاء نظريةٌ علمية، ويجِب التعامل معها في إطار العلوم وبأدواته. وفي عالم العلوم، تحِلُّ النظرية الفُضلى دائمًا محلَّ الأسوأ، حتّى لو كانت تحدُث ببطء. وإذا نظرنا إلى الماضي، لرأينا أنّ الإيمان المسيحي ولقرون قد تفاعل وردّ في العلم والبحث بطُرق مختلفة جدّا: بمرور الوقت، تم رفضها تمامًا على أنّها حكمة إنسانية غير ضرورية، بينما تمّ قبولهما كما هي في بعض الأحيان. إنّ تحديدَ العلاقة بين الإيمان المسيحي والعِلم هو رسالة كلّ جيل، وهنالك حاجة لوفرةٍ من الحكمة في تأدية تلك الرسالة.

٤) كيف يأتي الإيمانُ إلى الوجود؟

أحدُ كُنوز الإيمان اللوثري، هو الحقيقة المُهينة القائلة، بأنّ الإنسان لا يستطيعُ أن يجعلَ نفسَه مؤمنًا ولا أن يبقى في الإيمان ولو للحظة واحدة بمفرده. إنّ الروحَ القُدس وحده، يستطيع أن يُوقِظ الإيمان بيسوعَ المسيح في قلب الإنسان. أحيانًا نرى في النقد المسيحي لنظرية النشوء والارتقاء ميزة غريبة: يُعتقد بأنّ الشخصَ الذي يَعتبر نظريةَ النشوء والارتقاء خاطئةً يُصبح مؤمنًا. على كلّ حال، إنّ استبدالَ نظرية علمية بأخرى لا يجعل أحدًا مسيحيًا. ثمّة رسالة خاصّة للعقل البشريّ، لكنّها لا تستطيع أن تجعلَ المرءَ يؤمنُ بإنجيل الصليب. إنّ الإيمانَ هبةٌ من الروح القدس، ويُولدها من خلال الكلمة والأسرار أينما ومتى شاء.

٥) الحكمة التي تنْحني لله

يفتخر العُلماء في الغرب بٱستقلالهم التامّ في أبحاثهم، وديدنُهمُ ألّا تكون لأيّة إيدولوجيا أو ديانة أيّ تأثير عليهم . العالِم الذي يحترمُ نفسَه، لا ينْحني أمامَ أيِّ شخصٍ أو أيّ شيء. كان العِلم في القرن العشرين محاطًا بجوٍّ منَ التفاؤل: يستطيعُ الإنسانُ أن يحِلَّ مشاكلَ هذا العالَم بالعلم وبالتكنولوجيا. لقد مرَّ هذا الاعتقادُ ببعض الأوقات الصعبة خلالَ العُقود المنصرمة. إنّ العلمَ والتكنولوجيا لم يجلِبا لا السلامَ والسعادةَ فقط، بلِ التشرذم والوَحْدة وبيئة تتّجه نحوَ الدمار.

نقرأُ في بِداية العهد الجديد كيف أتى الحُكماء من الشرق إلى مذود الطفل يسوعَ المسيح، ولم يُصبحوا أقلَّ حكمةً بركوعهم أمام القدّوس. وفي مختلف روائع الفن، نرى أنّ وجوهَهم تعكِسُ النعيم وبهجةَ ٱلاكتشاف. إنّنا نحتاج، بالإضافة إلى العلوم المجزّأة والممزّقة والضيّقة، إلى الحِكمة التي يُمكن أن تنحني أمامَ الخالِق العظيم.