منَ الأوْهام إلى مَحَبّة قَريبِك - 1 يوحنّا 4

بقلم: 
الدكتور إِرْكّي كُسكِنْنيمي
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

يُوحَنَّا ٱلْأُولَى 4


لقد وصلْنا في رسالة يوحنّا الأولى، إلى الأَصْحاح الرابع. هذا الأَصْحاح، هو جزءٌ من قِسمٍ أوسعَ (الأصْحاحان 4-5)، حيث موضوعُهما هو أنّ العقيدة الصحيحةَ، تؤدّي إلى الحياة الصحيحة. في الأصْحاح الرابع، يوجد أولاً تحْذير منَ العقائد الخاطئة والبِدَع، ويتلوه نِقاشٌ حولَ محبّة قريبك.

4: 3-1: لا تُصدِّقْ كلَّ واعِظ!

في الوقت الذي كُتبت فيه الرسالة، سادت بِدَعٌ شديدة كثيرة. ولذلك، كان منَ الجدير، تحذير شعب الله من أنّه ليس كلّ واعظ هو بالضرورة من أبناء الله. يُمنحُ المستمعون مِقياسًا يميّزون به بين الروح الصحيحة والروح الخاطئة. كلّ مَن لا يعترف بأنّ يسوعَ هو المسيح، وأنّه جاء في الجسد فهو روح كاذبة، أمّا مَن يعترف به فهو روح حقّ من الله.

عادة ما يكون منَ الصعب، إعطاء تعريفٍ للمعلّمين الكذبة، الذين ينتقدُهم مؤلِّفو كِتاب العهْد الجديد، لأنّنا لا نعرف عنهم شيئًا سوى التحذيراتِ التي نقرؤها. في هذه الحالة، فإنّ العقيدة الخاطئةَ، التي كانت تؤثّر على الكنيسة المبكّرة والتي تمّ رفضُها، معروفة جيدًا إلى حدّ ما. كان هنالك مَن علّم أنّ يسوعَ المسيحَ كائنٌ روحيّ، وليس إنسانًا حقيقيًا. ولأنّه لم يكُن إنسانًا حقيقيًّا، فلم يتألَّمْ أيضًا، ولم يمُت بأيّ شكلٍ منَ الأشكال. وبما أنّه لم يمُت، فلم يكفِّر عن خطايانا أيضا. كان يسوعُ المسيحُ مثل وميضٍ من نور، أظهر لجميع الناس الطريقَ الصحيحَ إلى النور. كانت هذه العقيدة بمثابة عُشْبة ضارّة، وتَعيّن على الكنيسة الأولى الكثير من العمل في اقتلاعها.

عندما نأتي لتطبيق هذه الآيات على زماننا، نلاحظ أولاً أنّه ليس من اللائق الاستمرار في مراقبة الوُعّاظ. وعلى النقيض من ذلك، نرى أنّ كلمةَ الله تُشجّعُنا صراحة على القيام بذلك. العقيدة الخاطئة هي أمر خطيرٌ، وتُهين قداسة الله. يَجب الامتناعُ عنِ الاستماع إليها.

ثانيًا، نكتشف أنّ العالمَ لم يتبدّل على الإطلاق: إنّ العقيدة الخاطئة، البِدعة، نفسها، ما زالت حتّى الآن قائمة وفعّالةً بيننا. في يومنا هذا، إنّها فلسفة الأنثروپوسوفيا - عِلْم طبائِع البَشر- عند رودولف شْتايْنِر (Rudolf Steiner, 1861-1925، فيلسوف، عالم رياضيّات وناقد أدبيّ من النمسا) (أو مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا، الثيوصوفيا أي التصوّف أو الكريستوصوفيا أي اليقظة الروحيّة المؤدّية لاكتشاف الإلهيّ/المقدّس في الشخص نفسه وفي الخليقة جمْعاء). تلك التعاليمُ نفسُها تشكِّل أساس هذه البِدع. وهذا هو الأمرُ الذي يجعَل مدارس شتايْنِر إشكالية ومشكوكًا بها، من وُجهة النظر المسيحيّة.

التغلّبُ على البِدَع والأوْهام يكونُ برفْضِها 4: 4-6

لم يُرحّبْ مُتلقّو الرسالة بالعقائد الباطلة بل رفضوها وأنْكروها، وهكذا اِنتصروا على إغراء العقيدة الكاذبة. لم تكُن حكمتهم هي التي صانتْهم وحفظتهم، بل محبّة الله. لقد حمى الله خاصّتَه. وعلى الرغم من أنّ التعليماتِ التي قدّمها الهراطقة، معلّمو البِدَع، تناسِبُ تمامًا تفكيرَ الناس - منَ الطبيعيّ أن تلائمُ التعليماتُ المسْتوْحاة من إرادة العالَم العالَمَ - ما زالت هنالك مجموعة من أبناء الله، الذين كانوا في مأمنٍ منَ العَثَرات والسُّقوط. الكلمة الرسوليّة هي كلمة الله: والذين يفتحُها الله لهم، يستمِعون إلى الرُّسل. أمّا أولئك الذين يُنكرون الله، فإنّهم يُنكرون الكلمة الرسوليّةَ أيضًا. الحدّ واضح وبسيط بهذا الشكل.

مرّة أخرى، إنّنا نتعلَّم أشياءَ كثيرةً عنِ البِدع والهرْطَقات. قد يجِد الناسُ بِدْعة، ليست بشبيهةٍ لكلمة الله، حسب رغبتهم. قد يُكرَّمُ الواعظ الكاذبُ بينَنا كثيرًا، لأنّ العقيدة الصحيحةَ، غالبًا ما تكون مُسيئةً جدًا لطبيعتنا الآثِمة. قد يكون من الأسهل الاستسلامُ والتخلّي عن تعاليم الكتاب المقدّس - ولكن بعد ذلك سيُنحّى الله نفسُه جانبًا! على المحكّ أمرٌ ملموس للغاية: كلُّ مَن يرفُض الكلمة الرسوليّة، يرفُض الله أيضًا، ويكون تحت سيطرة الروح المخادعة المضلّلة.

فليُحِبُّ بعضُنا بعْضًا! 4: 7- 12

يعود الرسولُ مرّةً أخرى إلى الحياة المسيحيّة الصحيحة، الناجمِة عنِ العقيدة والإيمان الصحيحَيْن. تُشبهُ الآياتُ 7– 12، بشكلٍ خاصّ الترنيمة، وهي كلامُ جميل جدًّا عن محبّة الله، وعن محبّة الإنسان المسيحيّ. تردُ لفظة ”حبّ“ مِرارًا وتَكرارًا. لدينا هنا، بمعنى ما، نظيرٌ لـ ”ترنيمة الحبّ“ الشهيرة التي كتبها الرسول بولس (كورنثوس الأولى الأصحاح 13؛ ورد في الآية الأخيرة 13: والآنَ يبقى الإيمانُ والرجاء، وأعظمُ هذه الثلاثة هي المحبّة).

تجدُر الإشارةُ إلى الترتيب الصحيح في هذا القِسم: هناك كلام قاطعٌ جدًا عن محبّة يسوعَ المسيح، وبعد ذلك النتائج المستخلصة منه. عندَ الكلام عنِ الحبّ، لا بدّ أوّلاً من إظهار الحبّ الحقيقيّ، التامّ والمتّقد. إنّ ذلك ظاهر للجميع على صليب يسوعَ المسيحِ، على جبل الجُلجثة. لقد قدّم الله ٱبنه الوحيدَ إلى العالَم. دمه يُكفّر عن الخطايا. علاقتنا مع الله سليمة، لأن اللهَ أصلحها. إنّ المحبة الحقيقيّةَ، ليست في قلوبنا، بل في قلب الله الآب. قلوبنا تكون دافئةً، ولكنّها تبرُد من جديد. نعمة الله ثابتة، لا تتبدّل. كلّ مَن يفقَه هذا، يكون قد وجد أساسًا متينًا كالصخرة وسيصمُد في وجه كلّ العواصف. على المسيحيّ أن يستخلصَ النتائج من محبّة الله. لأن الله أحبّنا، فمن واجبنا أن نُحبَّ قريبنا. بهذا الشكل، يكون لصلاح الله وطيبتِه مكانٌ في حياتنا. سوف يتدفّقُ نهرٌ من البرَكات من خلال المسيحيّين إلى هذا العالَم البارد، الشرّير. المغفرة ستحِلّ محلَّ الكراهية، والبركة بدلًا من الترهيب والانتقام. على هذا النحو، سيتشكّل ملكوتُ الله حتّى في هذا العالَم، وإنْ كان جزئيًا فقط، ولكن مع ذلك، فإنّ أُولى ثِمار محبّة الله يتِمُّ قطفها وجمعُها حتّى في أيّامنا هذه، ونحن نقدِّم الشكر لأبينا الصالح من أجلها.

كما لو كان مارًّا مرَّ الكرام، ينطِق يوحنّا بالكلمات التي حيّرتْ وأدهشتِ الكثيرَ من قُرّاء الكتاب المقدّس. لماذا يُعلنُ يوحنّا أنّ لا أحدَ قد رأى الله قطّ؟ ماذا بخُصوص إبراهيمَ؟ أو بخصوص موسى؟ أو بخصوص إشعياء؟ أو بخصوص حزقيال؟ هنالك في الخلفيّة، تاريخ طويلٌ للإيمان اليهوديّ. لقد صنعتِ الشعوب الوثنيّةُ صُورًا للآلهة، أصنامًا، وعبَدوها. أمّا بالنسبة لشعوب العهد القديم الذين آمنوا بالخالِق، وكانت هنالك حقيقة مُطلقة مفادُها أنّه لا يجوز أو يُسمح لأيّ إنسان أن يصْنع صورةً لله أو أن يصفَه. إنّه ليس في هيئة إنسان، كما يتصوّر صانعُ صوَر الآلهة. إنّ الربَّ شيء آخرُ تماما. لهذا السبب، نرى أنّ التعاليم اليهوديّةَ اللاحقة، بصدد هذه المسألة، حذرةٌ للغاية، ولم تُرِد إعطاءَ أيّة إمكانيّة أو اِحتمال البتّةَ لفهم العهد القديم بصورة خاطئة. لذلك فُسِّر أنّ القدّيسين في العهد القديم، لم يرَوْا الله في الواقع، ولكن مجْد الله فقط. إنّنا نفهمُ ذلك من خلال إلقاء نظرة خاطفة على الشمس؛ إنّنا، في الواقع، لا نرى الشمس نفسَها، ولكن سُطوعها المبهِر، المذهِل.

المحبّةُ وتأكيدُ الخَلاص 4: 13-21

كيف يُمكنُ أنْ نظلّ ثابتينَ في الإيمان حتّى النهاية؟ يُجيبُ يوحنّا قائلًا، إنّ هذا الأمرَ من شأن روح الله. ومَن يتحمّل ويصبِر حتّى النهاية، هو المؤمنُ بابن الله، والله سيحفظُه الى يوم الحِساب. يجِب أن نعيش ونُحِبَّ قريبَنا، لأنّه هكذا سيعمَل الله من خِلالنا. إنّ الثقةَ الراسخةَ بالله تطرَح الخوف، وتمنحُنا السلام. إنّ كلَّ مَن يخاف منَ الهلاك الأبديّ وغضب الله، لم يكتملْ بعد في المحبّة، ولم يتعلّم بعد بالكامل، معرفةَ عُمْق محبّة الله. من ناحية أُخرى، كلّ مَن يرفُض محبّة قريبه، يرفض الله حتمًا، في الوقت ذاته.

مرة أخرى، نتعلّم أشياءَ كثيرةً من هذا الجزء القصير. إنّ ”المحبّة“ المشارَ إليها في رسائل يوحنّا، لا تعْني الشعورَ بل الفِعل. لا أحدَ يستطيع أن يقول إنّه يُحبّ قريبَه، ومع ذلك، وفي نفس الوقت، يتركُه يتضوّر جوعًا حتّى الموت. ولا يُمكن لأحدٍ أن يقول إنّه يحبّ اللهَ، ومع ذلك يستمرّ في العيش عَمْدًا ضدَّ كلمة الله. إنّ الإيمان والتعليم الصحيح والمحبّةَ كلّها مرتبطةٌ ببعضها البعض، مُكَوِّنة وَحْدة واحدة. لا يُمكن أن يكون هنالك واحد بِلا الآخرَيْن أو أن يكون الآخران بلا الواحد. إذا وضعْنا الإيمانَ في جهة، والحياة في الجهة المقابلة، وهذا ما يحدُث غالبًا، فإنّنا نسير في طريق خاطىء تمامًا. هذان الأمران مجتمعان، لا مَحالةَ ومتلازمان، لا يُمكنُ الفصلُ بينهما.

علاوة على ذلك، بوُسعنا أن نرى ما هو ضمان الخلاص، إنّه معرفة محبّة المسيح، وثقة مؤكّدة في نعْمة الله. هذا التأكيد أوِ اليقين غير موجود لا في أنفُسنا ولا في إيماننا، إنّه في المسيح وفي محبّته. عندما يضع الخاطئ ثقتَه بربّ الصليب، تنطفئ ألسنةُ لهبِ الجحيم، وسلام الله يجعلُنا نتذوّق فرح السماء وسعادَتها. لسْنا قادرين على تصديق أو فهم ذلك بشكل صحيح، وذلك لأنّ قلوبَنا بطيئةٌ في تصديق كلمة الكتاب المقدّس. يبدو أنه أمرٌ لا يُصَدّق، أنّني كما أنا، أستطيعُ أن أكون ابنَ الله، ولكن هذا هو عينُ الصَّواب، لأنّ هذا ما يُعلّمنا إيّاه الكتاب المقدّس!