كلمة الحياة - 1 يوحنّا 1

بقلم: 
الدكتور إِرْكّي كُسكِنْنيمي
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

يُوحَنَّا ٱلْأُولَى 1


الكلمة باقية! 1: 1- 4

يوحنّا لا يستهلُّ رسالتَه بتحيّة، بل بإعلانٍ يُشبِه تمامًا بِدايةَ الأَصْحاح الأوّل من إنجيل يوحنّا. إنّ كلمةَ الحياة، يسوع المسيح، موجودةٌ منذ الأزَل. لقد وُلد لهذا العالَم، وفيه ظهرتِ الحياةُ وتجلّت. إنّ شُهودَ يسوعَ المسيح، الذين سمِعوا بأنفسهمِ الربَّ يتحدّثُ، وكان بوُسْعهم أن يلمِسوه ، وهُم يُعلنونَ وينشُرون الآنَ سرَّ الحياة الأبديّة لكلّ العالَم. وأيُّ شخصٍ يختبرُ هذا السرَّ، اللغزَ، سيشارِكُ في البهْجة التي تجلِبه شَرِكتُهم مع الآب الله ويسوع َ المسيح. لا شكَّ أنّ ما يعنيه يوحنّا واضح: إنّ الإِيمان المسيحيَّ ليس وهمًا، أو أيِّ شيء مبنيّ على أساطيرَ ٱبتكرها بنو البشَر. إنّ أساسَ الإيمان هو يسوعُ المسيح؛ وشهادتُه مقَدّمَةٌ لقرّاء الكتاب المقدَّس، من قِبَل أولئك الذين هم بأنفسهم كانوا مُقتنَعين بحقيقة وجود الربّ.

بَدءً من الآيات/الأعداد الأولى، يُمكننا أن نتعلَّمَ دروسًا هامّة جوهريّة. يقول الكثيرون منَ الناس، نحن لا نستطيعُ معرفةَ الله، لكنّنا يُمكننا أن نتصوّر عظمتَه فقط. هذا القول، بالطبع، صحيحٌ جزئيًّا، لأنّه في هذا العالَم الذي وقع في الخطيئة، يكون الله إلهًا مخفيًّا، غيرَ مرئيّ. ولكن غالبًا، ما يتمّ التأكيد بنحوٍ خاطئ، على ذلك بالقول إنّه منَ الأحسن عدم إحداث الكثير من الضجيج، حولَ شُؤون الإيمان، والاكتفاء بمجرّد: ”عِشْ ودَعِ الآخرين يعيشون“. إنَّ تعاليمَ يوحنّا مختلفةٌ تمامًا. والكلمة الرسوليّة مؤكّدة وثابتة، إنّها تُفرِح المستمعين وتَمنحهمُ الأمان. السؤال لا علاقةَ له بأمرٍ غريب وأثيريّ، بل إنّه ذو صلة بعَمل الله العظيم للخلاص. حينما نشهَد بكلمة الله على ما فعله يسوعُ المسيح، نكون قد وجدْنا أساسًا راسخًا، ويقينًا لن ينهار تحتَنا - بعكْس كلّ ما صنعه أوِ ٱخترعه الإنسان.

إنّ قارئَ الرسالة، سُرعانَ ما يعلَم أنّ الكاتبَ ينوي مُعارضةَ المعلّمين الكذَبة، والتصدّي لهم. وتكون مسألةُ تعريفِ مثل هؤلاء المعلّمين الكذَبة أمرًا عسيرًا، حينما يكون كلّ ما هو متوفّرٌ لدينا، هو النقد الذي يُركّز عليهم. مع ذلك، وبالنظر إلى أنّ شُهودَ العِيان كان بمقْدورهم لمس يسوعَ المسيح بأيديهم، فإنّ هدفَ النقد يبدو جليًّا. ولقد ادّعى بعضُ الناس أنّ يسوعَ المسيحَ كان مُجرّدَ ”كائن روحيّ“، نوع ما من ”جسد نور“، لم يُولَد كإنسان حقيقيّ وابن الله الذي مات على الصليب. إنّ رسالةَ يوحنّا هذه، تُخبرُنا ما هي عِبارات قانون الإيمان النيقاوي (وُضع في مجْمع نيقية عام ٣٢٥، فيه أُسسُ الإيمان المسيحيِّ) مثل ما يلي:

”… الموْلود منَ الآب قبلَ كلّ الدّهور.
إلهٌ من إله، نورٌ من نور،
إله حقّ من إله حقّ،
مَوْلود غير مخْلوق، واحد مع الآب في الجوهر؛
الذي به كان كلُّ شيء.
الذي من أجلِنا نحن البشَر ومن أجِل خَلاصِنا
نزل منَ السماء،
وتجسّد منَ الروح القُدس ومن مريمَ العذراء
وصار إنسانًا...“

شهدتِ الكنيسة الأولى أوقاتًا مذهلة؛ كان موتُ يسوعَ المسيحِ وقيامتُه، نقطةَ تحوّلٍ عظيمة، فبعدَها كان لا بدّ من رؤية كلّ شيء بمِنظارِ نور جديد. نعم، الله رؤوفٌ ومُحبّ، ولكن كيف يتوافق هذا وينسجمُ مع متطلّبات الحياة الصحيحة؟ يسوعُ المسيح هو ٱبن الله، ولكن كيف كان عليه أن يتألّم ويموت؟ كانت هنالك أسئلة كثيرة تمّ طرحُها في أوساط جماعة المؤمنين، النابضة بالحيويّة وسريعة النموّ، خلالَ العُقود الأولى، ولم تكُنِ المهمّةُ سهلة. ترسُم رسائلُ يوحنّا معالمَ طريقٍ آمن ومُشرق.

الظَّلام والنُّور غير مُتناسِقَيْن 1: 5

منَ السهل تجاوزُ الآية الخامسة والتغاضي عنها، ولكن من المهمّ ذكرها ”وهذه البُشرى التي سمِعْناها منه، ونحمىلُها إليكم، هي أنّ اللهَ نورٌ لا ظلامَ فيه البتَّة“.

إذا أعدتَ قراءةَ هذه الآية، فإنّك قد تظُنُّ أنّها لا تأتي بأيّ شيءٍ جديد. من الطبيعيّ أنَّ اللهَ نورٌ، ويقينًا لا وجودَ لأيّة ذرّة واحدة منَ الظلمة فيه. منِ الذّي يستغرب ذلك؟ يبدو أنّ الآيةَ خاليةٌ تمامًا منَ المضمون. ولكن عندما تُلقي نظرةً فاحصة على الأصْحاحَيْن الأوّل والثاني، فإنّها تبدأ تشِعّ بشكلٍ ساطع. في الآية الخامسة، يُقدّم يوحنّا ما يُشبِه العُنوان لما سيقولُه لاحقًا. تلي العُنوانَ، بعد ذلك تعليماتٌ قصيرة، وسنتأمّل فيها، الواحد تلوَ الآخر. يشتمل العُنوان على الفكرة الرئيسيّة، والإرشادات مستمدّةٌ منها. تتوالى سِلسلةُ التعليمات هذه إلى الأصحاح الثاني.

إنّ مجدَ الله لرائعٌ مَهيب. كان بعضُ الناس في العهْد القديم، قد شاهدوا عظَمَةَ الله، وركعوا على رُكَبهم وندبوا اِثمَهم (إشعياء 6). ومن هذا المنطلق، تُدرَس الأمورُ في التعليمات: ما المنسجِمُ مع مجد الله وما غير المنسجم؟ بالإضافة إلى النور وملكوت الله، هنالك أيضًا الظلْمة وملَكوت الشيطان؛ وإلى جانبِ الجنّة، هنالك جَهَنَّمُ أيضًا. ثمَّ إلى جانب الحياة الصحيحة السليمة، ثمّة حياة خاطئة باطِلة أيضًا، تؤدّي وتُفضي إلى الدّمار.

قبلَ أن نُواصل حديثَنا عن نصّ يوحنّا، قد نُحسِنُ صُنعًا، إذا ما توقّفنا وتريّثنا قليلًا. هل بٱستطاعتِنا بعدَ الآن طرح السؤال كما يفعَل يوحنّا؟ ألم نكبُرْ لنقول ونفكّرَ، بأنّ الأسئلة الأيديولوجيّةَ لا تهُمّ كثيرًا لتلك الدرجة، ولا حتّى أسئلة الإيمان؟ ألم يُصبحْ وعيُ الخطيئة غيرَ عاديّ؟ نُردّد في خِدمة الكنيسة، في ٱعترافنا، ”أنا عارفٌ بمعاصِيَّ، وخطيّتي أمامي دائمًا“ (اُنظر مزمور 51: 3) و ”اِمنحني نعمتَك المقدّسة حتّى أبكي، مثل بطرس، على خطاياي“ (راجِع متّى 26: 75). ولكن هل لدينا ذلك الوعي، وهل نَبكي؟ ربّما كان هذا هو السبب، في أنّنا علينا أن ندرُس الإطارَ الثابت والشديد للحدود التي ينخرِط فيها يوحنّا هنا. لذا، نُكرّر طرحَ السؤال: ما المنسجِمُ مع مجد الله وما غير المتناغم؟

طفلُ النّور لا يعيشُ في الظَّلام 1: 6-7

إنّ الحدَّ الأوّل الذي يضعُه يوحنّا، بسيطٌ وسهل. كلّ الذين يدّعُون أنّهم أطفالُ نور، لكنّهم يشعُرون براحة أكبرَ في الظلام، يُناقضون أنفسَهم ويُظهرون أنّهم كاذبون. كلّ من تلقّى النورَ، يريد أن يسلُك فيه، فهو كمسيحيّ يسير.

في غالب الظنّ، إنّنا نفهم، ما يَعنيه هذا الحديثُ عنِ النور والظلام، فالسؤال يدورُ حولَ حياتنا اليوميّة. نحن نستخلصُ استنتاجاتٍ حولَ إيماننا المسيحيّ، ونتصرّف بموجب ذلك. فإذا قال الواحدُ إنّه مسيحيٌّ، ولكنّه يكرَه جارَه (يوحنّا الأولى 2: 11)، فهو يتحدّث هُراء، كلامًا فارغا. إنّ الحياة السليمةَ، هي جزء لا يتجزّأ منَ الإيمان المسيحيّ. هذه هي الطريقة التي نعيش بها، في شرِكة مع ربّ المجْد بمغفرة الخطايا. هنا، نحن بصدَد حقيقة أنّ الكتاب المقدّس يكرّرها مِرارًا وتَكرارا. في الواقع، لقد تلقّينا غُفران الخطايا، وهذا تحديدًا، من أجل يسوعَ المسيح، وليس من أجلنا نحن. إذا تركنا إيمانَنا المسيحيَّ، فهذا يجعلُنا عديمي الرَّحمة، رغم أنه يحمِل هذا الغفران لكلّ شيء، فإنَّنا مخطئون تمامًا.

أبناءُ النّور لن يُنكِروا خطاياهُم 1: 8-9

بعد التعليم أوِ الإرشاد السابق، من الجيّد قراءة ما بعدَه. الله رائعٌ في مجْده، وقُدّوس من كلّ جانب ووجه؛ أمّا حالة الإنسان فمختلفةٌ برمّتها. الجميع خاطئ ومُذنب أمامَ الله. وكلّ مَن يُنكرُ ذلك فقدِ ٱبتعد عنِ الإيمان الصّحيح. مع الاعتراف بعظمة الله وقداسته، على المسيحيّين أن يُواجهوا حقيقةَ أنّهم يجِب أن يستمرّوا في الاعتراف بشرّهم إثْمهم. يتَحتّم علينا أن نعترف بخطايانا أمامَ الله عندَ كلِّ منعَطف. بهذه الطريقة يُشارك اللُه غُفرانَه بدم يسوعَ المسيح، ويطهِّر الخاطئَ من كلّ اِثمٍ وخطيئة.

في بعض الأحيان، وبخاصّة في هذه الحالة، يُمكنُنا أن نكون مُمتنّين جدًّا للهَراطقة. يبدو أنّه كان هنالك معلّمون ادّعوا أنّهم بلا أيّة خطيئة أو ذنْب. وهذا يُعطي يوحنّا سببًا ليقول، على المسيحيّين ألا يُخْفوا خطاياهُم. أهنالك ما هو أفضلُ لنا من هذه الكلمة! نحن خُطاة ونستحقّ سُخطَ الله وغيظَه؛ في مواجهة مجد الله، لا نصِل إلّا إلى طردنا ونبْذنا. إنّنا حالاتٌ ميؤوسٌ منها بالكمال والتّمام. هذه هي الطريقة، التي يسمَح بها الله لنا بالتفكير، ولا يسمح فحسب، بل يأمُر. وإذا عرفنا أنفسَنا، فعندَها نعرف أنّ كلَّ ما عدا ذلك، سيكون أكاذيبَ وغِشًّا وخداعًا على أيّة حال.

وهكذا، فإنّ كلمةَ الحياة الواردةَ في هذا الأصحاح، بسيطةٌ جدّا. إنّك في داخلك خاطئ وتستحقّ عِقابَ الله. إنّك طاهر ومقدّس بسبب المسيح، وهذا ما يُحدِّد حياتَك وخياراتِك في سلوكك اليوميّ. لا تعليمَ أو إرشادَ آخرَ يتماشى مع مجد الله. يُمكنُنا أن نُضيف بناءً على تجربتنا الخاصّة، أنّه لا وجودَ لتعليمٍ آخرَ، يُمكن أن يُدخلَ السلامَ إلى قلب الخاطئ.

الآية العاشرة تنتمي إلى التعليم الآتي المستمرّ حتى الأصحاح الثاني، وسنناقشُه في الأصحاح التالي.