الإيمان والمحبّة ٱلأخويّة ـ رِسالة يوحنّا ٱلأولى الأصْحاح ٱلثَّالث

بقلم: 
الدكتور إِرْكّي كُسكِنْنيمي
ترجمة وتدقيق: 
أ. د. حسيب شحادة

يُوحَنَّا ٱلْأُولَى 2
يُوحَنَّا ٱلْأُولَى 3


ا“ستنتاج مُهمّ 2: 28-29

لقد تكلَّم يوحنّا مُطوّلًا عنِ الإيمان الحقيقيّ والمعرفة الصحيحة. إنّ الجزء الأساسيَّ من الإيمان السليم هو انتهاجُ الحياة الصحيحة السويّة على هَدْي ذلك الإيمان. كلُّ من يتعلّم معرفةَ الله البارّ، يريدُ أن يصنعَ البِرّ في حياته أيضًا. إنّها علامةٌ على أنّ حياةَ إيمان المؤمن مصدرُها الله. يُذكِّر يوحنّا قُرّاءَه بخطرٍ رهيب؛ ففي يوم من الأيّام، سيأتي يسوعُ المسيحُ، ليدينَ الجميع. وأولئك المسيحيّون الذين لم يثْبُتوا به حتّى النهاية، سَيُطرَدون من أمامه، ولن يكون لهم ملجأ عند الربّ.

لا توجدُ في الكتاب المقدّس، سوى عددٍ قليل من التحذيرات، الأكثر صرامةً من هذا التحذير. من الممكن حقًَا أن يتنقّل الناس في دوائر الكنيسة، ويُنظر إليهم في العالَم، على أنّهم مؤمنون. في جلَبة نهاية الزمان، سيَطلُبون ملجأ عند يسوعَ المسيح، لكنُهم سيُبْعدون! لقد تمّت مناقشةُ الموضوع ذاتِه أيضًا، في إنجيل البشير متّى 7: 21-23، على سبيل المِثال. أيُّ قدرٍ منَ الإصرار، لن يُجديَ نفعًا على أنّك مسيحيّ، ولا حتّى معجزات خارقة، حينما يقول يسوعُ المسيح ”ما عرفتكم مرّة، اِبتعدوا عنّي يا أشْرار! (اُنظر: متّى7: 23). الكثير منَ الناس الصالحين في عُيون العالَم، وفي نظرهم سينتهي بهم المطاف إلى الدمار. إنّ الطريقَ إلى الحياة ضيّق، والطريق إلى الموت واسع. يجِب قراءة معالمِ الحياة المدوّنة بين دفّتي الكتاب المقدّس بعِناية. نحن الخُطاة، ملاذُنا وملْجَؤنا يسوعُ المسيحُ وحده، ونحن نصلّي له من أجل منْحنا القوّةَ، كي يوصِلَنا إيمانُنا أيضًا إلى الحياة الصحيحة.

عَطِيّةُ الله 3: 1-3

بعد الحضّ والحثِّ، يدور الحديثُ مرّةً أخرى عن عطيّة الله العظيمة، وبعد ذلك يتكرّر الحضّ والنُّصح. يُخاطب الكاتب المستمعين ويشاركُهم فرحَه وٱبتهاجه: نحن مدْعُوّون أبناء الله، وهكذا نحن بفضْل محبّة الله العظيمة. في يسوعَ المسيح، أَخذَنا اللُه ملكًا خاصًّا به، حتّى في هذا العالَم، ولكن هنالك ما هو أفضلُ من ذلك بكثير في المستقبل. عندما يأتي يسوعُ المسيح، سنتحَوّل إلى شَبَهه. عندَها لن يكون هنالك بعد خطيئة أو أسى، بل معرفة مجْد الله ومحبّته فقط . وهنالك حضّ، قد تمّ تضمينُه جزئيًا في موضوع الفرَح، الذي عُبّر عنه آنفًا، ومرتبط به: العالَم لا يعرِف الله، وبالتَّالي، فهو لا يعرف أبناءَ الله، بل يتجنّبُهم ويكرَههم ويضطهِدُهم. ومع ذلك، يجب أن يتذكّر ٱبنُ الله أنّنا قد تلقّينا الكثير وسننال أكثرَ حتّى. هذا الأمل، يجعلُنا نرى العالَم بعُيون جديدة.

مرّة أخرى، تُوجد آياتٌ قصيرة، تُخْفي في طَيّاتها أشياءَ كثيرةً بشكل لا يُصدّق. لا يُمكنُنا معالجةُ هذه الأمور الشائقة إلا بإيجاز. أوّلاً، علينا أن نرى مرّة أُخرى، ما هو موقعُ كلمة الله وترتيبُها في حياتنا المسيحيّة. حتّى لو كان هذا العالَم يتطلّب دائمًا بعضَ الإثبات أولاً، وبعدَ ذلك فقط، يمنحُ مكانة عالية، أمّا في ملكوت الله فالأشياءُ مختلفة تمامًا. أوّلًا، لدينا الحقيقة أنّني ابنُ الله بدم فِداء يسوعَ المسيحِ وحده، وذلك بدون أيّ أعمال أو نشاط منّي، من جانِبي، إنّ اللهَ يُحِبُّني ويعزِّني لأنّه صالح. وفقط بعد هذا، يأتي دَورُ الحديث عن اِستنتاجاتنا، أي كيف تؤثِّر على حياتنا. إذا لم نتعلّم ترتيبَ هذه الأمور، فلن نحْظى بضميرٍ صالح أبدًا.

ثانيًا، لَديْنا لمَْحةٌ عنِ الحياة في الآخِرة. كيف سنكونُ في الأبديّة، وماذا سنفْعل هناك؟ لا يُقدِّمُ الكتابُ المقدّس إجاباتٍ مُحَدَّدة. إنّ أفضلَ إجابة هي أنّنا سوف نتغيَّر إلى شَبَه يسوعَ المسيح (انظر أيضًا رسالة كورنثوس الأولى 15). سوف نَظَلُّ كحالِنا، مثل أنفُسنا، حيثُ يُمْكن التعرّف علينا، مثل ذلك الرَّجل الغنيّ الذي عرف لعازر وإبراهيم، لكن شيئًا ما، مع ذلك، سوف يتغيّر. إنّنا لا نعرِف أيَّ شيء أكثرَ دقّةً، ولكن بوُسعنا أن نُخَمّن أنَّه حتّى في كلّ هذا، ستفوقُ هِبةُ الله كلَّ ما يُمكنُنا تصوّره.

ثالثًا، لِنَنظُر مرّةً أُخرى إلى الحقيقة، بأنّ مُلكَ الله ليس من هذا العالَم، وعليه فلن يحْظى بشعبيّة كبيرة هنا. نحن غُرَباءُ وسنبقى غُرباء. نحن لا نتفاجأ من هذا الغَرابة. في هذا أيضًا، منَ الحسن أن نتذكَّر أنَّ العلامة المميّزةَ لملِكنا الحبيب يسوعَ المسيحِ هي المعاناة، وأتباعُه يحمِلون العلامة ذاتَها.

يجِبُ أن نتَجنّبَ الخطيئة 3: 4-10

تماشِيًا مع سِمة مُهمّة في الرِّسالة، تتغيّر وُجهةُ النظر إلى عكْس ذلك بعد الوعْد بالنعْمة. هنالك تأكيد مرّةً أخرى على حقيقة وُجوب اِستخلاص النتائج من إيماننا المسيحيّ. الخطيئة محفوفةٌ بالمخاطر، ولا تتوافقُ معَ مجْد يسوعَ المسيح. لقد جاء يسوعُ المسيحُ لينزعَ خطايا العالَم وذنوبَه لا ليباركَها. تصِل هذه النقطة ذُروتَها الآن بشكل مُثير للإعجاب في الآيتين 8 - 9: من عمِل الخطيئةَ كان من إبليس، ومن عمِل البِرّ كان من الله. لا يقتصِر الأمر على أنّ الشخصَ المولودَ من الله، يجب ألا يستمرّ في الخطيئة، بل إنَّه لا يستطيع الاستمرارَ في الخطيئة.

هنا أيضًا، عليْنا أن نتذكّر أنّ مهمّتَنا في هذه المحاضرات، ليست تمييعَ كلمة الله، وممارسة اللفّ والدوران (اللتُ والعجن) بل شرحها بنحوٍ قاطِع مانع. إنّ الكلمةَ واضحةٌ بما فيه الكفاية وبكلّ حَزْم، ولا تتطلّب سِوى القُدْرةِ على القِراءة حتّى يتِم َّ فهمُها. لا جَدْوى في التمييز بين خطيئة صغيرة وأُخرى كبيرة، لأن النصّ ببساطة لا يسمَح بذلك. الخطيئة هي الخطيئة. لا يوجدُ سِوى سيّدين، الشيطان والله. ونحن نتبعُ هذا أو ذاك، وهذا يظهَر ويتّضح في حياتنا.

وعندما نُشدِّد على حتْميّة كلمة الله وحقيقتها المطلقة، ونشحَذُها، يكون بمقدورنا رؤية طبيعة هذا القِسم. إنّه ليس برهانًا نظريًّا حول هيئة المؤمن وشكله. إنّ هذا الجزءَ منذ مطلعه، حضٌّ وإرشاد. إنّ الكلماتِ القاسيةَ الحازمةَ، موجّهةٌ بشكل خاصّ إلى الخُطاة، الذين هم أبناءُ الله بالنعْمة. أوّلاً هنالك النعمة ثمّ الوصية المتعلّقة بها.

الحُبُّ شَيءٌ ملْموس 3: 11-18

إنّ العقيدةَ، التعاليمَ السليمة تقود بالضَّرورة إلى الحياة الصحيحة، إلى الحُبّ. والحبُّ ليس مجرَّدَ شيء مجرَّد، لكنّه في الحياة اليوميّة يتجسّد بتأدية الخِدمة والنشاط العمليّ. الأمر ذاتُه، ينطبِقُ على العقيدة الخاطئة والكراهية، وهي لن تكون بلا نتائجَ وتبِعات أيضًا. لقد قتَل قايين أخاه هابيل، الذي كانت حياتُه أفضلَ منه. هذا هو النوعُ منَ الحَسد والكَراهِية والبَغْضاء، الذي سيواجهُه المسيحيّون، لكن علينا ألا نَدَع ذلك يفاجئُنا أو يكبحَ تدفّقَ الحبّ. إنّ الكراهيةَ تجعلُنا قتَلة في نظَر الله، حتّى بلا الضربة القاضية، وتستبعدُنا عن ملكوت الله. من ناحية أخرى، تسلُك المحبّة طريقَ يسوعَ المسيحِ في المعاناة، كنموذج يُحتذى به، وتقودُنا لخدمة قريبنا، وتمنعُنا من إٍغْلاق قلوبنا على قريبٍ يتألّم ويُعاني.

تحتوي الآيةُ 17—”مَن كانت له خيراتُ العالَم، ورأى أخاه مُحتاجًا فأغلق قلبَه عنه، فكيف تثبُتُ محبّةُ الله فيه“، هذا سؤال صعب بالنسبة لنا نحن المسيحيّين. السؤال صعْبٌ لدرجة أنّه حتّى الكتاب المقدّس لا يُجيب عليه. إذا كان لديْنا الكثيرُ، وللآخرين لا شيءَ، ونحن نُغلِق قلوبَنا عنهم، فهل يُمكن لمحبّة الله أن تظلَّ فينا بعد ذلك؟ لقد تعلّمنا أن نُغلِق قلوبَنا بإحكامٍ إزاءَ حاجة الشخص المتألِّم. إنّنا نُغلِق بابَ منزلنا، ونُغلق التِّلْفاز، ونطرُد الجِياع والمعذَّبين من أفكارنا. ملابسُنا تُكلِّف عشراتِ اليوروهات، وأثاثُنا المئاتِ، وسيّاراتنا عشرات الآلاف، وشُقَقُنا مئات الآلاف من اليوروهات. يُمكنُنا تحمّلُ كلّ هذا، إذا عمِلنا بكدٍّ وجدّ. وبالنسبة للشخص المتألِّم، وللعمل من أجل ملَكوت الله، فإنّنا نعتقد أنَّ خمسين يورو مبلغٌ ضخْم، ومئة يورو بذلٌ مستحيل، وألف يورو إفراط فاحش (دونه خرطُ القَتاد). من علَّمنا درسَ هذا الحِساب؟

الله يعرِفُ ما في القُلوب 3: 19-20

من الصُّعوبة بمكان شرحُ هذا القِسم، ولكن منَ الممْكن أن يُفهمَ على النَّحو التالي: إنّ الحبَّ الأخويّ يجلِب معه عطيّةً خاصّة به - كلّ مَن يُشارك الآخرَ بما لديه، يعلمُ أنّ حقيقَة الله ترشِدُه وتقودُه. أن يُدينَنا قلبُنا، مع ذلك، هو أمر مألوفٌ بالنسبة للمسيحيّ، لا سيّما إذا كنّا، وَفقًا لمتطلّبات يوحنّا المطلقة، لا نُنكر خَطايانا (1: 8). لكن الله أعظمُ من قلوبنا؛ إنّه يعرِفُنا ويرحَم أبناءَه.

خُُلاصة 3: 21-23

لقد قدَّم يوحنّا الكثيرَ من نصائحِ الحضِّ والحثّ. وفي الآيات الأخيرة منَ الأصحاح، يأتي بالخُلاصة. يُمكن لكلّ الذين يتبعُون حقيقةَ الله، أن يعيشوا بثقةٍ أمامَ ربّهم، ويعرفون أنّ صلواتِهم مسموعةٌ (راجع يوحنا 16: 23-26). مرّة أخرى، حقيقة الله بسيطة: من واجبنا أن نؤمنَ بيسوع َ المسيحِ، ونُحِبَّ قريبَنا. هذا الحبُّ ليس مجرّدَ شُعور حُلو معسول، همهمة أو دندنة أو عاطفة، بل حِفظ وصايا يسوعَ المسيح. عندما يسلُك المسيحيّون في هذا الطريق، يُردّد الروح القُدس في قلوبهم أيضًا ”آمين“.